كتب : د.حمد مشتت
كان علينا ان نقطع مسافة تقدر ب ٥٧٥ كيلومترا من بغداد الى مجمع طريبيل الحدودي. ٥٧٥ كيلومترا من القلق والخوف والتكهن والتهيؤ لكل الاحتمالات الممكنة. سلام غفا بعد ان اسعف الشاب المصاب بالصرع. انا بقيت يقظا احسب المسافة ويعذبني الوقت. بعد ان غادرنا حدود بغداد غزا النوم مملكة المسافرين في الباص ومنحهم ذلك النسيان المؤقت الذي ياتي مع النوم. برأت الاجساد من عقولها المتعبة واستسلمت للخدر.
في الطريق مررنا بلافتات كثيرة تمجد القائد واحداها كانت له وهو يرفع يده اليمنى في اشارة للتحية، حسبتها وداعا لنا.
اكتظاظ الطريق بلافتات الرئيس غطى تماما على وجود العراق ، لم يكن هناك وطن ، اختفى واضمحل الى مجرد شارع وصحراء من الجانبين.
كرس هذا الاحساس ماورد في نشرة الاخبار عن احلام واوهام الرئيس اليومية و التي اتت من المذياع ولم يجرؤ السائق على اسكاتها او تغيير الموجة. هزم صدام حسين شادية ولم يعد صوتها العذب يردد على اسماعنا تلك الحنية التي ساعدتنا في الشطر الاول من الرحلة.
وصلنا الى طريبيل الساعة الواحدة صباحا من يوم ٢٨ تشرن الثاني من عام ١٩٩٤. كانت طريبيل نقطة معتمة في الصحراء والاحساس الغالب على الوافدين انهم مذنبين حتى لو اثبتت برائتهم.
عندما توقف الباص توقفت القلوب عن النبض واصبحت حجارة يضيق بها الصدر.
حتى الاجساد تماهت مع الكراسي ولم يعد لها في الفضاء المحسوب امنياً حيزا للمناورة.
صوت فرامل الباص وهي تسحق الاسفلت تحتنا كان يشبه صفارة انذار تعودناها في الحروب التي لم تتوقف.
اول صفارة انذار قامت بتقديمي للحرب للتعارف اول مرة كانت في ايلول من عام ١٩٨٠. كنت قد قضيت الليلة في بيت خالي الكبير في منطقة الحبيبية . نائما على سطح البيت افزعتني صفارات الانذار وابصرت كتلا من الفولاذ في الجو لطائرات مقاتلة اخترقت اشعة الشمس الصباحية معلنة عن وجه الحرب السافر.
توقف الباص ولم تتوقف الرحلة بعد.
الرحلة الاخيرة مع السلطة التي لاتحب الغرباء، وكنا في سعينا المحموم للهروب من قبضتها غرباء وعليها ان تفتش في كياننا المقلق عن اية اشارات لتقويض اركانها.
اعلن سائق الباص رسميا بصوت لايقبل الشك عن وصولنا.
-اخوان لاتتركون مقاعدكم.الجملة التي قالها بصوت ذكرني بصوت المذيع العراقي مقداد مراد وهو يردد ( ياحوم اتبع لو جرينا) في ايام الحرب الاولى.
⁃ كلمن بمكانه اردف مساعده مفسرا.
ونهض السائق لجمع جوازات المسافرين. وكان هذا هو التقليد المتبع اذ يقوم سائق الباص بجمع جوازات السفر من الركاب وياخذها الى مكتب الامن داخل البناية للتدقيق.السائق وهو يبدأ هذه المهمة عالية المستوى تغيرت ملامح وجهه واتخذ هيئة رجل امن .
رجل الامن العراقي تميزه من بين الف شخص. نظراته تخترقك وتكشف كل مؤامراتك مهما كانت صغيرة. انت كتاب مفتوح امامه وهو يقرأ ماشاء من صفحاته. لم يتبادل اية كلمة مع الركاب. كان ينظر اليهم فقط ثم ياخذ الجواز.
كم كان من الصعب علي ان اسلم وثيقتي المختومة بعد كل هذا العناء. اعطيته حياتي برمتها مع الوثيقة. وفي يديه رقدت مستسلمة لكشف الحساب الاخير.
كان المسافرون مثل سجناء وصلوا اخيرا الى زنازينهم.
نظر الشاب القريب من سلام الينا وفي عينيه قلق.
ونظرنا اليه بتوسل ان يحفظ عهده الذي كتبه في الورقة الصغيرة بعد التشافي من نوبة الصرع.
كانت نقطة التفتيش معتمة الا من مصابيح خافتة. لم تكن هناك اية محاولة لاضفاء بعض الالفة على المكان. تغادر العراق وآخر ماتراه حيطان موحشة واصوات آمرة وصورة للبطل الذي هندس كل هذا الخراب.
اختفى السائق بعد ان انتهى من مهمته وغادر مع الجوازات.
كان علينا ان ننتظر داخل الباص الحكم النهائي من مكتب الامن.
غفوت
لاول مرة منذ مغادرتنا بغداد سقط راسي على مسند الكرسي واغلق ابواب التفكير تماما.
الظلمة التي حول المكان وهدوء الركاب المرتابين باللحظة المقبلة وما قد تحمله من مفاجئات ساعداني كثيرا في ارتياد مملكة النوم بسهولة غابت عني كل الايام الماضية. حتى سلام تفاجأ بذلك مثلما قال لي فيما بعد.
چا انت شنو تنام في احلك لحظة- هذا كان تعليقه.
احمد سلمان
تخيلت ان احدا يناديني في الحلم. خدر الاغفاءة القصيرة مهد ذلك.
علا الصوت فجأة واصبح صياحا.
اعاد رجل الامن الذي دفع باب الباص بقوة اسمي للمرة الثالثة بنفاذ صبر
-مطلوب للمكتب.
اردف وهو يهز رأسه امتعاضا من تاخري في الرد على نداء الاستجواب المفاجىء.
يتبع