مجيد الهماشي
بسم الله، ارحل
صدرت مؤخرا الطبعة الجديدة من كتاب مثير بعنوان (أصوات من التاريخ) للكاتبالبريطاني سايمون سيباغ وتم نشر الكتاب أصلا عام 2005 محققا شهرة وصدى واسعينحيث اختار المؤلف خطب لمشاهير غيرت كلماتهم مجرى التاريخ.
وربما لتجنب الوقوع في متاهة النقد والتحليل عمل الكاتب على تبويب تلك الخطبتحت عناوين متفق عليها بالإجمال حيث يتلاشى تقريبا الاختلاف على مصادر صحتها،فعلى سبيل المثال وتحت عنوان (انبياء) يقول الكاتب ان (الوصايا العشر) للنبي موسى(ع) – ربما – هي الخطاب الأكثر انتشارا على مر العصور ويضع موعظة النبي عيسى(ع) القائلة ( طوبى لأرواح الفقراء) الواردة في انجيل القديس ماثيو كأشهر كلمة على مرالعصور ثم يختم هذا الجزء من الكتاب بالآية (144) من سورة البقرة, (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) على اعتبار ان هذه الآية الكريمة معززة باحاديث النبي محمد (ص) هيالأكثر متابعة وتأثيرا على البشر على مر العصور.
ويقول الكاتب ان الخطب التي غيرت العالم نحو الافضل هي ترانيم للحرية والتسامحوالمصداقية والنقاء، لكن أقوى الخطب لا تدور حول المحبة والسلم والجمال او الشعر، فهيغالبًا ما تكون إسقاطات فظيعة لقوة غاشمة مدسوسة بالأكاذيب والكراهية والافتراء،لتجريد إنسانية ما يسمون بـ “الأعداء” من خلال المبالغة القاسية. مثل هذه الخطب تحركالعوام كخطب الأنبياء ويصبح لها نفس المفعول حتى مع أنبل الأرواح ومع الشجعانوالابطال.
وكمثال على ذلك يمضي الكاتب الى القول من أحد خطب معاوية بن ابي سفيان على انهامن أكثر الخطب مكرا ودهاء على مر التاريخ واضعا اياها تحت تبويب (الصعودوالسقوط) مستشهدا بخطابه المعروف، ” انا لا اطيق سيفي في مكان يكفي فيه سوطي،ولا سوطي حيث يكفي لساني، وحتى لو كان هناك شعرة واحدة تربطني بالرجال، فلااتركها تنكسر، فعندما يشدون، أرخي، وإذ يرخون، أشد “.
لنا ان نتصور كم كان اختبار شخصية امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) صعبا بمعاوية حيث ساعد مكره ودهائه على ظهور شخصية ابا الحسن العظيمة اقتداءابمقولة “لولا الباطل لما عرف الحق“.
اتى الكتاب على الكثير من الخطب بمختلف مسمياتها كالسلام، المقاومة، الثورة، الحرية،الكرامة، المعارك، التحدي – والكثير من المسميات الاخرى ولم يكن هناك اي نصيب يذكرللعرب والمسلمين في تلك المساهمات الحضارية ناهيك عن الرئيس المصري الراحل انورالسادات كرجل سلام واية الله الامام الخميني كرجل ثورة اما في تصنيف خطاب الارهابفيحتل العرب والمسلمون المركز الاول بأربع خطب من أصل ستة ويتبوأ خطاب الحجاج بنيوسف الثقفي في اهل الكوفة المقام الاول، ثم اسامة بن لادن، وابو بكر البغدادي ثم خطبةجنكيزخان الدموية.
أقنعت هذه الخطب الكثيرين في عهود ماضية على فعل أشياء لا توصف فضاعتها منالشر والحروب العبثية، اما في أيامنا هذه، يتم تحدي حقيقة الأحداث التي تدور الان فيعصر الجاهلية الثانية الحالي، حيث تجدد خطاب الكراهية والعنف ونظريات المؤامرة،لذلك يجب ان ندرك ونحذر من اننا نعيش في أوقات تجعل العنف والكراهية ليس أمرًاعاديًا ومقبولًا فحسب، بل ضروريا عند البعض!
ونحن في العراق لنا قدوة غير حسنة في لجوء “السياسيين” الى العنف لفض النزاعاتمنذ العام 1948 بثورة رشيد عالي الكيلاني وثورة الضباط المتلهفين للسلطة والذيناثبتت السنين من انهم بتاتا “غير احرار” وصولا الى حماقات صدام والمذابح (لم يغفلمؤلف هذا الكتاب الرائع حقيقة صدام كشخص ضعيف لا يستحق شرف ذكر اسمه فيكتاب سامي كهذا) المستمرة حتى يومنا هذا لكن المخيف ان حمام الدم بدأ يتدفق بضراوةاكبر من أي وقت مضى وحيث وصلنا الان الى عتبة من الجور والظلم لا يجاريها الا ماحصل في إنكلترا قبل 382 سنة حيث لم يسبق أن تم التعبير عن السخط السياسي كماحدث في خطاب أوليفر كرومويل عند إقالته مجلس النواب الانكليزي المشلول آنذاك.
باسم الله، ارحل
بينما دأب المسلمون منذ قرون على ترديد عبارة (بسم الله، الرحمن الرحيم)، كان هناك فيالغرب رجل واحد فقط ردد هذه العبارة الجبارة، “بسم الله، لكن بلا رحمة“، كان ذلك الزعيمرجل الدين الإنكليزي البروتستانتي الشهير أوليفر كر ومويل في القرن السابع عشروتحديدا في العام 1640 ميلادي، وهي فترة رضوخ بلاد ما بين النهرين “العراق” لسطوةالغزاة من الاتراك والفرس. كان كرومويل من طبقة النبلاء (السادة)،ورجل دين محترم، وكان من أعضاء مجلس النواب الغامضين حين بدأت المواجهة بين الملكتشارلز الأول ومجلس النواب الإنكليزي، مما أشعل فتيل حرب أهلية دامية.
قام كر ومويل، الذي لم يكن لديه خبرة عسكرية، بتأسيس ميليشيا من سلاح الفرسانوظهر تدريجيًا كقائد عسكري عظيم، أنشأ جيشًا نموذجيًا جديدًا هزم جيش الدولة الملكي،وانتصر في الحرب – ثم برز كرئيس للمجلس العسكري. وكان متديناً لامعاً، يميل إلىالجانب البروتستانتي المتشدد، لكنه رجل محافظ، سياسياً واجتماعياً. قاد رجاله إلىترتيل الاناشيد الدينية الحماسية، ولم يشك أبدًا في أنه كان يقوم بأداء واجبات كلفه بهاالله، مهما كانت دمويًتها.
أقدم كرومويل على محاكمة وإعدام الملك تشارلز الأول. ثم ذبح الكاثوليك في أيرلندا، وهزمالغزو الأسكتلندي لإنكلترا واستمر يكافح من أجل السيطرة على مركزي القوة الوحيدين؛الطبقة الحاكمة المحافظة واعدائهم من المتشددين والمتطرفين.
في البداية حاول كرومويل تطهير مجلس النواب وذلك في ديسمبر 1649، وفي 20 أبريل1653، نفذ صبره وقرر الانقضاض على اعضاء مجلس النواب بأسلوب عفوي لكن صداهكان كالزلزال تحت شعار “باسم الله، ارحل!” -!
بعد ذلك بقرون استُخدم نفس هذا الشعار، للمرة الثانية وكان ذلك ضد رئيس الوزراءالبريطاني المغمور نيفل تشيمبرلاند بسبب دوره في اشعال فتيل الحرب العالمية الثانيةفي مايو عام 1940، قبل سقوطه بوقت قصير.
حكم كرومويل بريطانيا بنظام يعادل نظام الولي الفقيه الذي تتبعه بعض الطوائفالاسلامية حتى وفاته عام 1658.
دخل كرومويل يومذاك مجلس النواب وخطب فيهم:
“… لقد حان الوقت بالنسبة لي لأنهي جلوسكم في هذه الأماكن العزيزة، التي أهانهاازدرائكم بكل فضيلة، دنستموها بممارستكم لكل رذيلة، ما أنتم الا عبارة عن فصائلاجرامية وأعداء لاي حكومة جيدة؛ رغم ان حكومتنا الحالية هم شراذم من البؤساءوالمرتزقة، تبتغون أن يبيع الشعب معتقداته مقابل الفوضى والدمار، مثلما خذل نبي اللهيعقوب مقابل حفنة من المال، هل حافظتم على فضيلة واحدة بينكم الآن؟
هل هناك رذيلة واحدة لم ترتكبوها؟
ان حصاني لأكثر تدينا من اكثركم تقوى: المال والذهب هو ربكم؛ من منكم لم يقايضضميره بالرشوة؟
هل من بينكم رجل واحد يهتم لمصلحة الشعب وخير الوطن؟
وأنتن، أيها العاهرات الحقيرات، ألم تدنسن هذا المكان المقدس، وتحولت بيوت الله إلىاوكار للصوص، بسبب عباداتكم الفاسقة وممارساتكم الشريرة؟
لقد نمت تحت حكمكم فتنة بغيضة في الأمة كلها وبشكل لا يحتمل؛ لقد تم تفويضكم هنامن قبل ابناء الشعب من أجل مكافحة الظالم، وتصبحون أنتم أكبر المظالم!
لذلك، فإن الله يدعوني إلى تطهير هذا الإسطبل ألقذر، حالا، وانهاء إجراءاتكم الجائرة ضدالشعب، وبعون الله، والقوة التي منحني إياها، أتيت الآن لأفعلها؛ أنا آمركم بذلك،وبخلافه ستموتون جميعا هنا، غادروا على الفور من هذا المكان، اذهبوا، أخرجوا! أسرعوا ايها العبيد الفاسدين“!
ثم صاح برئيس مجلس النواب، اذهب!
“خذ المفاتيح اللامعة هناك، وابحث عن الأبواب، وباسم الله، ارحل؟“
نجحت خطبة كرومويل بإقالة مجلس النواب وتم تعيينه في عام 1653 بمنصب اللوردالحامي (الولي الفقيه)، وكان أول شخص يتبوأ منصب رئيس الدولة دون ان يكن عضوًامن العائلة المالكة. أثبتت الحكومة التي تلت ذلك على مدى السنوات الخمس التالية أنهاالأكثر استقرارًا منذ ما قبل الحرب الأهلية، حيث كانت حكومة مستقرة، ذات سياسةخارجية محترمة ومهابة في الخارج، وحل خلالها منهج التسامح الديني على نطاق أوسعمن أي وقت مضى. كانت أيضًا أول حكومة في التاريخ البريطاني توفر نظامًا واحدًاللحكم وتم توحيد إنجلترا وويلز واسكتلندا وأيرلندا في ظل برلمان بريطاني منتخب واحد،والذي عمل للمرة الأولى والوحيدة في التاريخ البريطاني بدستور مكتوب مفصل.
توفي كرومويل في 3 سبتمبر 1658 عن عمر يناهز 59 عامًا. كانت وفاته بسببالمضاعفات المتعلقة بنوع من الملاريا ومرض حصى الكلى. ويُعتقد أن وفاة ابنته قبل شهرقد عجل بموته.
كان كرومويل قد عين ابنه ريتشارد خلفا له. ومع ذلك، لم يكن ريتشارد ناجحًا في القيادةمثل والده، حيث لم تكن له علاقة جيدة مع الجيش. كما كان هناك صراع بين مجلس النوابوالجيش.
في مايو 1659، تخلى ريتشارد عن السلطة، بعد 9 أشهر فقط من وفاة والده ما فسحالمجال امام أحد اعضاء العائلة المالكة لاعتلاء العرش.
أصدر تشارلز الثاني مرسومًا يقضي بإبعاد جثة كرومويل عن كاتدرائية وستمنستر أبي،وأن يتم “إعدامه” – على الرغم من مرور عام تقريبا على وفاته – وذلك بسبب اعدامه الملكتشارلز الاول. تمت إزالة جثث كرومويل وهنري إريتون (جنرال في الجيش الانكليزي أثناءالحرب الأهلية) وجون برادشو (رئيس المحكمة العليا) من قبورهم.
تم شنقهم بالسلاسل في تايبرن، (ماربل ارج – حاليا)، قبل قطع رؤوسهم. ألقيت جثثهمفي قبور العامة، قبل ان تعلق رؤوسهم على رماح فوق قبة برلمان وستمنستر.
أتمنى ان تصل رسالتي الى من يهمهم الامر، اللهم بلغت، اللهم فاشهد.
مجيد الهماشي
لندن / حزيران / 2022