الورقة المختومة الجزء ١٦  د. احمد مشتت

الورقة المختومة الجزء ١٦ د. احمد مشتت

د. احمد مشتت

انهت اختي تحضير حقيبة السفر التي لم تحتوي على اي شيء غير الملابس واساسيات اخرى وقرابين من المحبة. لم تكن فيها اية اوراق او كتب. حقيبة لا تثير الاشتباه او الانتباه. مفارقة ان تترك البلاد و حياتك باكملها هنا بحقيبة خفيفة ليس فيها غير بضعة قمصان وادوات للحلاقة وفرشاة اسنان. قدر العراقي في هجرته القسرية ان يمضي خفيفا.
اوصيت اختي ضمن الوصايا الالف ان ترعى مكتبتي التي كانت جزءا اساسيا من حياتي و اودعتها مسودة مخطوطة ديوان شعري لتحتفظ بها. نمت متاخرا تلك الليلة ولم افكر ابعد من مهمات اليوم التالي، سنشتري بطاقات السفر انا وسلام ومن ثم امضي الى كلية الطب في باب المعظم لاستلام وثائقي المترجمة الى اللغة الانجليزية.
في صباح اليوم التالي فطرنا انا واختي سوية شربت شايا عراقيا من يديها اللاتي كانتا ترتجفان.
كيف تحتمل اخواتنا وامهاتنا كل هذا الوداع في تاريخٍ يكتب بدموعهن الغالية. انهن سيدات المحن بلا منافس.
مبلغ البطاقات اكتمل وكان عندي ٥٠ دولار لتغطية مصاريفي في الاردن لحين اللقاء ببقية العائلة هناك. استاجرت العائلة شقة بسيطة في محافظة الزرقاء في الاردن. لم يكن لدي العنوان. وكل مالدي هو رقم هاتف لمكتب اتصالات قريب من البيت واخر ماعرفته من اخي هناك انه قال اي:
-اتصل بهذا الرقم وقل للموظفة اريد احكي وي العراقيين. وحدد موعد حتى استطيع ان اكون موجود هناك لاستلام المكالمة.
كان اخي يمر على المكتب اكثر من مرة في اليوم للتاكد من اي اتصال قادم من العراق.
كانت خطتي التي لن احيد عنها هي الاتصال بهم عندما اصل الى الاردن وليس قبل.
بالطبع انا وسلام لم نستأجر فندقا قبل السفر،
نصل هناك ولكل حادث حديث.
تم شراء البطاقات بنجاح وحجزنا على الباص الذي سيغادر بغداد الساعة ( ١١ ) من يوم ٢٧ تشرين الثاني من عام ١٩٩٤. تركني سلام بعد ذلك للذهاب الى ابيه وهو يحاول معرفة مصير اخيه عماد من خلال محامي مهم قريب من العائلة له اتصال برجل امن. كانوا يريدون معرفة مكانه بالضبط والتاكد من انه مازال حيا.
أما انا فذهبت الى كلية الطب. تلك كانت اخر مرة ازور فيها بيتي الثاني. كانت كذلك بالنسبة لي. دخلتها بدون اي شعور بالوحشة او الخوف. كانت حدائقها الصغيرة مزهرة. وجدرانها اليفة. وارضها مازالت تحتفظ بأثر خطواتي وانا شاب تواق للمعرفة.
نسيت منعم تماما.
وتجرأت على الابتسام سرا انني هزمته. ولن يكون لظله المهيمن اي اثر بعد الان.
كان صباحا رائقا لن تعكره اية قوة غاشمة. صباحا ملك لي وحدي. اطير في سماءه الصافية بدون اجنحة.
في مكتب العمادة استقبلتني سكرتيرة مجلس الاختصاصات الطبية بفتور مبالغ فيه.
_ اي وثائق؟ قالت من دون اي اهتمام محاولة بجدارة لمصادرة تفاؤلي الصباحي النادر.
شرحت لها بالتفصيل انني قدمت على ترجمة لشهادة زمالة المجلس بعد اجتيازي للامتحان النهائي. وكل اوراقي كانت قد وقعت من قبل رئيس المجلس بالموافقة على الترجمة.
وقبل ان تقول الكلمة المعتادة:
_تعال غدا
تجرأت وقلت لها اني لن اغادر بدون الوثائق المترجمة باصرار ولكن دون عصبية قد تثير غضبها وعنادها.
ذهبت الى غرفة المدير وعادت لتقول لي
_انتظر ساعة.
قالت ذلك لي وكأنها تمنحني مكرمة مهمة.
فعلا كانت مكرمة حقيقية لانها اتاحت لي بعض الوقت لأقضيه في المكان الذي احب. مررت بقسم التشريح وقاعة المحاضرات المجاورة له. كراسيها الحديدية صدأت ولكنها مازالت تحتفظ بهيبتها. ومررت بقسم الباثولوجي وتذكرت عندما هربت من هنالك مرة عبر الحائط المقابل لمصرف الدم. كان ذلك في نهاية الصف الرابع وبعد ان اكملنا اليوم الاخير للامتحانات المعقدة تم اقتيادنا بغد غلق كل المنافذ الى ساحة الكلية لغرض تسفيرنا الى معسكرات التدريب الصيفية في معسكر النهروان، وسط هلاهل ممثلات اتحاد النساء العام وهن يرددن:
هلهولة للبعث القائد.
كانت الباصات بانتظارنا خارج باب الكلية من جهة مدينة الطب.
وقبل ان نغادر قاعة الامتحان تم ابلاغنا ان الحزب فخور بنا للتطوع في هذه المعسكرات وان من يرفض الذهاب او يتغيب ستكون عقوبته رادعة وانتهى التبليغ كالعادة بتمجيد القائد الفذ.
تفاجأت بقدوم امي مع جارتنا لوداعي في ساحة الكلية ذلك اليوم. كنت قد حذرتها قبل ان اترك البيت صباحا انهم سياخذوننا الى المعسكرات التي كانت شائعة حينها.
اتت امي بطعام لي ونقود لرحلة العذاب المقبلة، ولكنها همست لي:
_انت مو ابني اذا تروح.
لا أدري من اين استمدت كل هذه الشجاعة للتحريض.
تركت الطعام معها واخذت النقود في اشارة الى انني ساحاول التملص من هذه المهمة المقدسة.
ودعت امي وجارتي.
وبدات البحث عن منفذ للهروب. لم تكن هناك منافذ كثيرة. وكانت عيون طلاب الاتحاد الوطني وافراد الامن تراقب كل التحركات.
عثرت اخيرا خلف بناية قسم الباثولوجي على منصة اعدها الطلاب بذكاء خرافي من مقاعد خشبية للهروب من الجدار العالي. قفزت من الجدار الذي كان يواجه مصرف الدم ونزلت وسط حلقة تكونت حول بائع شاي افترش الارض هناك.
لم يقل احد شيئا واستمروا باحتساء شايهم غير عابئين بالمظلي الذي قفز وسطهم.
_ السلام عليكم
قلت بعد ان نفضت الغبار عن ملابسي ومضيت دون تردد الى كراج باب المعظم ومن هناك الى البيت. قضيت ذلك الصيف بقراءة روايات الكاتب الروسي دستويفسكي الكاملة.
عندما عدت الى سكرتيرة المجلس بعد رحلتي القصيرة مع ذكريات لن تغيب عن مخيلتي كانت على فمي ابتسامة انتصار اثارت دهشة الموظفة.
_هذه الوثائق كاملة. وسلمتني اخر الاوراق المختومة.
اكتملت عدتي للسفر. والنظام الذي لم يستطع ان يرغمني على الذهاب الى معسكرات الخيبة تلك لن يوقفني عن المضي الى النهاية في طريق الخلاص.
يتبع

(Visited 38 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *