من ْ هو ابن الرواندي ؟؟؟
يشتهر مثل بين الناس عن شخصية شهيرة اتهمت بالانحراف عن جادة الصواب حسب ما يقوله خصومه .
المثل يقول ” ابن الرواندي يعلم الناس على الصلاة وهو لا يصلي ”
ويكاد الجميع لا يعرفون من هو اين الرواندي ولماذا يضرب المثل به .
ابن الرواندي هو عالم اسلامي متمرد ، تنقل في معتقده بين المعتزلة والشيعة واللا أدرية، الف الكثير من الكتب واجاز الغناء وانتقد النصوص القرانية .
ولد في مدينة راوند بين اصفهان وكاشان سنة 210 هـ وتوفي سنة 298هـ/912م) وهو أشهر الشخصيات التي نالتها تهمة “الإلحاد” في التاريخ الإسلامي، وسبب شهرته ليس أفكاره فقط بل جرأته على إعلان تلك الأفكار داخل أروقة الثقافة ومجالس الفكر وفي مدونات الجدل الكلامي؛ مما جعل نصوصه وآراءه مثارا لأقوى السجالات الكلامية والفِرَقية في التاريخ الفكري الإسلامي.
اتفق مترجمو ابن الراوندي على اسمه واسم أبيه؛ فقالوا إنه: أَحْمد بن يحيى الراوندي، لكنهم لم يذكروا تاريخ ميلاده. كما لا تسعف مصادر ومراجع ترجمته -التي أوصلها المؤرخ العراقي الدكتور عبد الأمير الأعسم (ت 1440هـ/2019م) إلى 74 مصدرا في كتابه عنه بعنوان: ‘تاريخ ابن الريوندي الملحد: نصوص ووثائق من المصادر العربية خلال ألف عام‘- بتفاصيل وافية عن حياته الأولى قبل قدومه إلى بغداد، ولا تطنب في ذكر شيوخه الذين تتلمذ عليهم.
وقد ذكر الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه أخذ عن عيسى بن الهيثم الصوفي (ت 245هـ/859م) الذي يعدّ أحد “كبار المعتزلة [وإن كان] يخالفهم في أشياء”. كما عُدَّ أبو عيسى الوراق المعتزلي (ت 247هـ/861م) من شيوخه الذين أثّروا فيه، وكان الوراق من رؤساء “المتكلمين الذين يُظهرون الإسلام ويُبطنون الزندقة”؛ وفقا للنديم (ت 384هـ/997م) في ‘الفهرست‘. ومن شيوخه أيضا المعتزلي أبو حفص الحداد (ت 252هـ/866م) صاحب كتاب ‘الجاروف في تكافؤ الأدلة‘.
ابن الراوندي والمعتزلة
مرت علاقة ابن الراوندي بالمعتزلة بمراحل مختلفة من “التجمُّل” بمذهبهم، إلى التفرغ لـ”فضحهم” بعد “طردهم” إياه من صفوفهم، وردودهم الوفيرة على كتبه؛ فهو حسب خصمه أبي الحسين الخياط المعتزلي (ت بعد 300هـ/912م) -في ‘الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد‘- كان “تابعهم، والمتعلم منهم، والمختلف إلى مجالسهم، والناسخ لكتبهم، والسائل عن مسائلهم، والمتجمِّل عند الناس بانتحال مذهبهم”.
ويرى أبو الحسين الخياط المعتزلي أن المعتزلة طردوا ابن الراوندي لطعنه في الدين؛ فـ”أول عداوة المعتزلة له” كانت بسبب وقيعته في الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام (ت 51هـ/672م) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب (ت 80هـ/700م) اللذين كانا يتأولان لإصلاح مروءتهما بأخذ الأموال من معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد. وكان الخياط شاهد تلك الوقيعة بنفسه.
وفي موضع آخر من الكتاب؛ يُذَكِّر الخياطُ ابنَ الراوندي بسبب طرد أهل الاعتزال النهائي له؛ فيقول: “وبوضعك كتاب ‘الزمرد‘ تطعن فيه على الرسل، وتقدح في أعلامها، وبوضعك فيه بابا ترجمته على المحمدية خاصة؛ فهذا مذهبك وهو قولك، ومن أجله نفتك المعتزلة وطردتك عن مجالسها، وباعدتك عن أنفسها”
لم يكن ابن الراوندي الوحيد الذي طرده أهل الاعتزال لانحرافه عن مبادئ “الأصول الخمسة” المؤسِّسة لمذهبهم الكلامي؛ فقد صرح الخياط بأنهم طردوا فضل الحذّاء الحَدَثي (ت 257هـ/861م) الذي كان “معتزليا نظّاميا”، فـ”خلّط وترك الحق فنفته المعتزلة عنها، وطردته عن مجالسها”، وكذلك فعلوا مع أبي عيسى الوراق “لما قال بالمنانية (= المانوية) ونَصَرَ الثَّـنَوِية (= أزلية النور والظلام)، ووضع لها الكتب يقوي مذاهبها ويؤكد قولها”.
ويؤكد لنا الخياط أن تنظيم المعتزلة يطرد “كل من حاد عن سَنَن الحق، وطعن في التوحيد ومال عن الإسلام”، وأنه لا يشفع لأولئك المطرودين كون ذويهم أعضاء في التنظيم، فقد طردوا أحمد بن حائط (زعيم فرقة “الحائطية” المعتزلية، مات قبل 232هـ/847م) رغم أن “أهله.. معتزلة معروفون، وأهل حق مشهورون، وليس بعيب عليهم أن يكون رجل منهم ألحد وخرج عن الإسلام”. كما أن ابن الراوندي نفسه كان أخوه وعمه معتزلييْن، “وليس بعيب عليهما إلحاده لعنه الله وطعنه في التوحيد، ووضعه الكتب للدهرية والملحدين”.
وتفيد أدبيات المعتزلة بأنهم كانوا صارمين في اكتساب الأفراد “عضوية التنظيم” والاستمرار فيه وطرد مخالفي أصوله، وكان الطرد والتأديب عندهم بحسب حجم المخالفة ونوعيتها؛ فضرب من المخالفات يستحق أصحابه الطرد النهائي، وبعض تخفض بسببه عضوية الفرد فقط ولا تشفع له منزلته، ولا عظيم بلائه السابق في الدعوة إلى الاعتزال.
ففي فصل عقده النديم -في ‘الفهرست‘- لـ”ذكر قوم من المعتزلة أبدعوا وتفرقوا”، وذكر منهم ابن الراوندي وشيوخه الثلاثة المتقدمين؛ نجد رجلا بمنزلة أبي بكر الأصم (ت 200هـ/815م) الذي “كان من المعتزلة المعدودين”، ولم “يكن يُعاب” بغير ميل لديه إلى علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م)، وبسبب ذلك الميل “أخرجته المعتزلة من جملة المخلصين”.
فالأصم ذو المكانة المعتزلية العالية خُفضت رتبته التنظيمية بسبب هذه المخالفة الجزئية البسيطة فأخرج من جملة “المخلصين”، رغم أنه كان قياديا مبدئيا “فقيرا شديد الصبر على الفقر”، اشتهر بإبعاد أتباعه عن الدنيا وأسباب الثراء والوظائف التي تقلد معتزلة زمانه أكثرها. وبلغ الأصم من قوة شخصيته القيادية والفكرية أن الإمام المعتزلي ثُمَامة بن أشْرَس (ت 213هـ/828م) كان يصفه للخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) بإعجاب وإطناب، وقد قال له عنه يوما وفقا للنديم: “يا أمير المؤمنين أنت خليفة وهو سوقة، لو رأيته هبته”!
ومن رموز المعتزلة الذين بُدِّعوا ثم طُردوا: هشام بن عمر الفُوَطي (ت 230هـ/845م) وضِرار بن عمرو (ت نحو 230هـ/845م)، وعباد بن سليمان البصري الذي كان “يخالف المعتزلة في أشياء ويختص بأشياء اخترعها لنفسه”؛ حسب النديم. ومن طريف إقصائهم له أنهم رموه بالجنون؛ فقد كان أبو علي الجُبّائي المعتزلي (ت 303هـ/915م) “يصفه بالحذق في علم الكلام ثم يقول: لولا جنونه!!”. وذكر النديم أن من المطرودين الناشئ الأكبر أبا العباس الأنباري (ت 293هـ/912م) الذي “سلك.. طريقة الفلسفة فسقط عند أهل طبقته من المتكلمين”.
وتسجل أدبياتُ سجالِ الفِرق الإسلامية وتنابزِ أهل المِلَل والنِّحَل أن المعتزلة تعودوا التكفير المتبادل، وأنه أمر شائع بينهم مما أدى إلى كثرة فرقهم وانشطارها المتتالي، حتى أوصلها مؤرخ الفِرَق عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1039م) -في كتابه ‘الفَرْق بين الفِرَق‘- إلى “عشرين فرقة كل فرقة منها تكفّر سائرَها”؛ وقد ضرب البغدادي مثلا لـ”تكفير شيوخ المعتزلة بعضها بعضا” بإبراهيم النَّظَّام (ت 229هـ/844م)، فإنه على جلالة قدره فيهم “قال بتكفيره أكثر شيوخ المعتزلة، منهم أبو الهُذيْل” العلّاف (227هـ/842م) والجُبّائي.
يؤكد الإمام أبو الحسن الأشعري (324هـ/936م) -في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘- أن ابن الراوندي وشيخه الوراق من “رجال الرافضة” ورغم ان عيسى الوراق معتزلي المذهب ، وقد عرف بالانحراف ، لكن الاشعري الذي كان معتزلي المذهب. يصنف الوراق. وابن الرواندي من الروافض أي ” الشيعة ” وقد “ألّفا لهم كتباً في الإمامة”. ويصف لنا الخياط -بتفصيل أكبر- حال ابن الراوندي بعد طرد المعتزلة له، والتطورات التي عرفتها مسيرته الفكرية والمذهبية، وأثر ذلك الطرد على نفسيته؛ فيقول إنه “بقي طريدا وحيدا فحمله الغيظ الذي دخله على أن مال إلى الرافضة، إذ لم يجد فرقة من الأمة تقبله فوضع لهم كتابه في الإمامة، وتقرّب إليهم بالكذب على المعتزلة”.
ويفيد نص الخياط هذا بمحورية الانتظام في سلك فرقة من فرق ذلك العصر الذي كان يمور بشتى المذاهب والطوائف، كما يُرينا -في نص آخر- مدى تأثير أفكار ابن الراوندي “الخبيثة” في من حوله من الشباب؛ فيقول: “وهذا القول كان يقوله الخبيث في آخر صحبته للمعتزلة، وصَحِبَه على ذلك أحداثٌ، فكلهم ظهر إلحادُه وانكشف كفره”. وتذكر كتب التراجم “أن ابن الراوندي كان لا يستقرّ على مذهب ولا يثبت على انتحال حتى ينتقل حالا بعد حال”؛ على حد وصف المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) في كتابه ‘الوافي بالوفيات‘.
ويذهب مترجمو ابن الراوندي إلى أن اضطرابه التنظيمي تجاوز مجرد الانتقال الفكري إلى تأليف الكتب وبيعها لمختلف الطوائف وفق طلباتها؛ فالصفدي يقول -نقلا عن أبي العباس الطبري البغدادي المعروف بـ”ابن القاص” (ت 335هـ/947م)- إنه “صنّف لليهود كتاب ‘البصيرة‘ ردا على الإِسلام لأربعمئة درهم -فيما بلغني- أخذها من يهود سامَرَّا، فلما قبض المال رام نقضها حتى أعطوه مئتيْ درهم فأمسك عن النقض”.
وفي ‘طبقات المعتزلة‘ لابن المرتضى (ت 840هـ/1436م) أنه “صنف لليهود والنصارى والثنوية وأهل التعطيل، قيل وصنف الإمامة للرافضة وأخذ منهم ثلاثين دينارا (= اليوم 5000 دولار أميركي تقريبا)”. ويشير المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1262م) -في ‘وفيات الأعيان‘- إلى أن ابن الراوندي “انفرد بمذاهب (= آراء) نقلها أهل الكلام عنه في كتبهم”.
ونجد حوالي عشرين من هذه الآراء في ‘مقالات الإسلاميين‘ للأشعري، وهي تتعلق باتفاقه مع المرجئة في تعريف الإيمان، وزعمه “أن السجود للشمس ليس بكفر ولكنه عَلَمٌ (= أمارة) على الكفر”، واستحالة خلود عصاة أهل القِبلة في النار، وأمور كلامية أخرى أهمها يتعلق بعلم الله، وتعريف “القدرة” و”الإنسان”، ومذهبه في القرآن الكريم الذي هو عنده “خلـَقَه الله عز وجل ليس بجسم ولا عرض”.
ويقول مؤرخ الأفكار المصري أحمد أمين (ت 1374هـ/1954م) -في ‘ظهر الإسلام‘- إن البغدادي وأبا الفتح الشهرستاني (ت 548هـ/1153م) وغيرهما من مؤلفي كتب المِلَل والنِّحَل انتفعوا بما كتبه ابن الراوندي عن المعتزلة، فنسبوا لهم أقواله عنهم من غير تحقيق فشنعوا عليهم.
واحتفاء الأشاعرة بما يشين سمعة المعتزلة ليس غريبا لمن استحضر حدة الخلاف بينهما في ذلك الزمن، ولعل اهتمام الأشعري الكبير بأقوال ابن الراوندي وحكاياته لآراء أهل الاعتزال راجع إلى اتحادهما في العداوة لـ”جماعتهما الأولى” قبل انشقاقهما عنها.
زنادقة و زملاء وآراء
يروي الذهبي -في ترجمته للتوحيدي من كتابه ‘تاريخ الإسلام‘- عن ابن الجوزي قوله: “زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري. وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحا وهو مجمجم ولم يصرح”. وقال أبو علي الأهوازي (ت 446هـ/1055م) في كتابه ‘مثالب ابن أبي بشر‘: “رجلان كانا من المعتزلة خرجا من المذهب فألحدا: ابن الراوندي والأشعري”؛ فما رأي هؤلاء الثلاثة “الملحدين” في ابن الراوندي؟
كتب الأشعري عدة ردود على ابن الراوندي، ولذلك استاء أتباعه من وصف الأهوازي له بالإلحاد وجعله مع ابن الراوندي؛ فقال ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تبيين كذب المفتري فيما نُسِبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري‘: “فَأَما تشبيهه أَبَا الْحسن بِابْن الروندي فَإِنَّهُ فِيهِ غير مُصِيب عِنْدِي، فقد ذكرتُ تَسْمِيَة مَا نقض عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ من تواليفه، وَبيّن من فَسَاد أَقْوَاله فِي كتبه وتصانيفه؛ فَكيف يقرن بَينهمَا فِي الْإِلْحَاد مَعَ مَا كَانَ بَينهمَا من الْخلاف والعنَاد؟”.
ويفيدنا ابن عساكر في هذا الباب فائدة عظيمة بشأن نظرة المعتزلة للذين خرجوا من تنظيمهم؛ فيقول إن مقالة الأهوازي المتقدمة “تنبئ عنه أنه كان من القائلين بالاعتزال لأنه جعل الخروج عن مذهب أهل الاعتزال إلحادا، وكفى بهذا القدر من قوله فسادا”. ورغم ما تقدم عن ابن الراوندي من أقوال مستبشَعَة إنْ صحت نسبتها إليه، وردود أبي الحسن الأشعري نفسه عليه؛ فإن الأخير جعل ابن الراوندي “إسلاميا مصليا” حسبما يُفهم من إيراده له ولآرائه الكلامية في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘؛ كما تقدمت الإشارة إليه.
أما التوحيدي فقد زندق ابنَ الراوندي في الإمتاع ومجَّنه، كما تقدم؛ لكنه أثنى -في كتابه ‘البصائر والذخائر‘- على نقضه على النحويين نحوَهم، وجعَلَه ممن “لا يلحن ولا يخطئ، لأنه متكلم بارع، وجهبذ ناقد، وبحّاث جَدِل ونظّار صبور”. إلا أن التوحيدي في موضع آخر من الكتاب ذكر اعتراض ابن البقال الشاعر البغدادي على القرآن واصفا إياه بأنه “كان على مذهب ابن الراوندي”، رغم أنه يذكر -في كتابه ‘أخلاق الوزيرين‘- ابن البقال هذا ضمن “قوم كرام يرجعون إلى فضل كثير وبصائر حسنة”. ويدلنا هذا التباين في الحكم على أن التوحيدي يزكي قدرة ابن الراوندي الجدلية والكلامية إلا أنه يطعن في نحلته الدينية.
كان المعري (ت 449هـ/1058م) أكثر زملاء التهمة اهتماما بابن الراوندي؛ فقد تناوله بإسهاب وسخرية وتقريع في ‘رسالة الغفران‘، وسخر من كتبه “الملعونة” سخرية لاذعة، يقول مثلا عن كتابه ‘الفريد‘ إنه “أفرده من كلّ خليل، وألبسه في الأبد بُرْدَ الذّليل”، وعن ‘الدامغ‘ يقول: “ما إخاله دمغ إلاّ من ألّفه، وبسوء الخلافة خلفه..؛ [وقد] دلّ ممن وضعه على ضعف دماغ”.
وقد علق الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ/1937م) بتعليق طريف على تناول المعري لابن الراوندي؛ فقال -في كتابه ‘تاريخ آداب العرب‘- إنه “وفّى الرجلَ حسابَه عليها، وبصق على كتبه مقدار دلو من السجع! وناهيك من سجع المعري الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى”.
دفاع خجول
يُلاحَظ تراثيا أن زملاء ابن الراوندي في تهمة الزندقة والإلحاد -مثل الحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ/922م) والتوحيدي والمعري- وجدوا من يدافع عنهم؛ فقد كُتبت كُتبٌ وفصول لتبرئهم من تهم الإلحاد والزندقة، كتبها أئمة ومحققون كبار؛ كابن عساكر في دفاعه عن الأشعري؛ وتاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) في ذبّه عن التوحيدي؛ وعبد العزيز الميمني الراجكوتي (ت 1398هـ/1978م) وأبي فهر محمود محمد شاكر (ت 1418هـ/1997م) في منافحتهما عن المعري.
ولم ينل ابن الراوندي من تزكية قديمة خالصة غير دفاع الشريف المرتضى (ت 436هـ/1045م) الذي رأى –في كتابه ‘الشافي في الإمامة‘- أن ابن الراوندي “إنما عمل الكتب التي شُنّع بها عليه معارضةً للمعتزلة وتحديًّا لهم. لأن القوم كانوا أساؤوا عشرته واستنقصوا معرفته؛ فحمله ذلك على إظهار هذه الكتب ليبيّن عجزهم عن استقصاء نقضها، وتحاملهم عليه في رميه بقصور الفهم والغفلة، وقد كان يتبرأ منها تبرؤا ظاهرا، وينتفي من عملها، ويضيفها إلى غيره”.
ولا يُجيز المرتضى تأليف هذه الكتب أصلا لأنه “ليس يشك في خطئه بتأليفها، سواء اعتقدها أم لم يعتقدها”، لكنه تحريا للإنصاف يقارنه بالجاحظ الذي كان يسوق أدلة خصوم الدين، ولم يقل أحد باعتناقه لتلك المذاهب؛ فكذلك “ابن الراوندي لم يقل في كتبه هذه التي شُنِّع بها عليه: إنني أعتقد المذاهب التي حكيتُها، وأذهب إلى صحتها. بل كان يقول: قالت الدهرية، وقال الموحدون، وقالت البراهمة، وقال مثبتو الرسول”.
وهنا يرى الشريف أنه من الإنصاف إن “زالت التبعة عن الجاحظ في سب الصحابة والأئمة والشهادة عليهم بالضلال، والمروق عن الدين بإخراجه كلامه مخرج الحكاية فلتزولنّ أيضا التبعة عن ابن الراوندي بمثل ذلك”. وقد كان ابن الخياط في انتصاره محتاطا لهذا المخرج الذي اتاحه المرتضى، فقال إن ابن الراوندي “شديد الغيظ على أنبياء الله ورسله، يريد أن يشتمهم ويعيبهم على لسان غيره”.
أما الفقيه الشافعي وقاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان فوصف ابن الراوندي بأنه “العالم المشهور.. من الفضلاء في عصره”، ولم يشر إلى زندقته وإلحاده رغم ذكره لبعض كتبه “الملعونة”. وتغاضيه ذلك عنه أغضب ابنَ كثير؛ فعلّق قائلا إنه “دَلّس عليه ولم يجرحه بشيء.. على عادته في العلماء والشعراء؛ فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم”!