زنزانة الغجر

بين حسين وحسن عشرُ سنين، حسين هو الكبير، غالباً يُسمّى الأول حسين وبعده يأتي عليٌ وحسن، العاطفة في بيوتنا للحسين أغزر حتى من علي، هذا الإسم بحد ذاته فاجعة للبعض، يكفي ان تنطقه مجرّداً سبباً لفتح صنبور الدموع، الأبُ شيخ المنبر الصادح والبَكْرَةُ التي يكفي سامعها حتى بالسر جريمة قد تصل عقوبتها الى ان يلتف حول الرقبة الحبل الغليظ، أخضع إسمي إبنيه لقاعدة خير الأسماء فأسبقهما بمحمد..
يرحل الشيخ في يوم كأنه خارج التقويم، أفلت كمن يعتمر طاقية الإخفاء في وقتٍ لاخُرمَ ينفذُ منه الأمل، السماء فوق خارطة العراق ملبدة بغيوم الحزب العتيد، تمطر رفاقاً وشوارب هادلة، فتستقبلها الارض جدراناً وابواباً ثقيلة تحجز خلفها طيور الجنان، قبور دوارس بلا شواهد، تيزاب ومقاصل ومثارم، غياب وتغييب وتسفير، الابواب تُقرع بعد انتصاف الليالي وينزل الطارقون من أبواب السطوح فيما كان الرئيس الطيب يزور مطابخ البيوت ويذوق طعام الفقراء وقتها كانت مطحنة الحرب تُكمل سمفونية الدمار ..
يخرج محمد حسين الاستاذ الجامعي من دارهم في الحنانة ولا يعود، خرج ولم يعد، ربما كان مقصوداً بشخصه او ربما شملتهُ الكرفة الدورية ويُطبق عليه صمتٌ وظلام دامس طويل، يتصل الشيخ بأهله بين مدة وأخرى فيسأل ؛
~كيف حال مريضكم ؟
~مازال مريضاً ..
ويمر عقد ونصف فتلوح بارقة أمل، يتصل صديق بحسن ويخبره أن ضابط أمن برتبة عالية يروم اللقاء به لموضوع يخص حسين، وافق حسن على عرض لواء الامن الوقور بأن يهرّب حسين من زنزانات الأمن ويجهزه بجواز سفر بإسم مختلف ويخرّجه الى الاردن مقابل ٥٠ الف دولار المبلغ الذي يساوي حينها ثمن ثلاث دور كبيرة، وإن كان ضابط الأمن ثقة بلا شك شأنه شأن جميع الرفاق إلا أن حسن وضع شرطاً لاجراء الصفقة هو أن يأتيه بكلمة واحدة فقط من حسين، ماذا كان ينادي امي؟ لم يكن يناديها ماما او يمّه، كان يناديها بكلمة خاصة به ..
وجه الشيخ الذي يتصّنع التجلد خلفه قلب عصفور يرف بشدة رفيف التوجس والانتظار وهو يتفوّه بكلماته بتوئدة وبطء: ولدي حسن كن حكيماً وانت تتحدث معهم، لاتنسى هذا أخوك ينبغي ان نستغل هذه الفرصة وبنفس الوقت لاتنسى ربما يكون مصيدة او لعبة من هؤلاء المجرمين، ويردف حدسه:
وهل هنالك من نبل وخافقة من الحنان بقلب قُدّ من حجرِ
وهل تجوز قمامات بمكرمة او ينفخ الطيب من مستنقع قذرِ
استأنف الشيخ حياته ينشر العلم وينوح على الحسين وحسين وكأن هذا الأسم أبى إلاّ ان يحمل الظليمة على مدار الدهور .. وهو في محنة الفقد وغربة الروح تصل له رسالة من حفيده احمد ابن علي فيها صورة له فيفرح بعودة الحياة الى بيت الحنانة بولادات جديدة ولكن يبدو ان الشبه بين احمد وحسين كبير جداً
لكن يهيج وجدي ان يذّكرني وجه لعمك في زنزانةِ الغجَرِ
تغولته سجون البعث واهتصرت شبابه وأحالته الى كِسَرِ
ينحسر الزمن الجميل عن وثائق تزيد على اوراق الشجر منها وثيقة تقول ان محمد حسين احمد حسون أُعدم شنقاً بعد سنة واحدة من اعتقاله ..

(Visited 5 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *