الجزء الثامن
بعد مغادرتي دائرة جوازات الرصافة اصبح في حوزتي اول اعتراف كوني ان باستطاعتيالتحليق ولو باجنحة مكسرة خارج سجن البلاد الكبير.
الجواز بمجرد رقاده في يدي الدافئة صار كائنا حيا. و بدأ يخطط معي اوراق الرحلةالاخيرة.
كان علي ان احسم امورا كثيرة خلال ماتبقى من يوم ٢٥ تشرين الثاني واليوم الذيسيسبق موعد السفر الذي حددناه انا ود. سلام.
المحطة الاولى كانت في مستشفى الكاظمية. الهدف تصفية اغراضي في سكن المستشفىواكمال صفقة بيع الاربطة والقاء اخر تحية وداع على المكان الذي عملت فيه لمدة اربعسنوات ليلاً ونهاراً.
في دار الاطباء الذي يقع ضمن بناية جميلة وصغيرة منفصلة عن المستشفى التقيت فيغرفتي بصديقي طبيب التخدير. كانت الاربطة في خزانة ملابس عمودية بالغرفة. عدد منهذه الاربطة يعود الى والدي الذي كان يحرص على اناقته دائما. حين فتحت باب خزانةالملابس انتابني شعور بانني افتحه لاخر مرة وانني اتركه فارغا وحزينا. مجرد كتلة منالحديد انتصبت في الغرفة شاهدا على العزلة.
وضعت في حقيبتي ماتبقى لي من ملابس بالاضافة الى الصدرية البيضاء التي رافقتنيفي رحلتي هنا.
( احمد دير بالك تفكر تحن وترجع )
قال صديقي طبيب التخدير وهو يجرب بعض الاربطة. قال ذلك بصوت حكيم وعارف ومتنبئ.
اعطاني النقود وعانقني مودعاً بشكل مفاجئ واختفى من الغرفة.
كنت اخشى ان أُترَكَ في الغرفة لوحدي محاطا بجدران الاسئلة حتى ولو للحظات قصيرة. ورغم صغر حجم الغرفة الا انها بدت لي متاهة كبيرة وفيها دهاليز تفضي الى دهاليزاعقد. جلست على حافة السرير ونظرت الى الجدران التي اعادت صدى الاصوات التيكانت تمنح الغرفة حياةً وصداقات ونقاشات في العمل والشعر والحب.
لملمت اخر حاجياتي حذاء اسود اشتريته قبل شهر من شارع فلسطين سيكون رفيقي فيالرحلة، كاسيت كريم منصور الذي كان يصدح في ليالٍ مضت ، وضعته في الة التسجيلالصغيرة ( اسف على قسمتي … و عمري الكضيته سدى .. خان الفرح طيبتي … و انحازلأهل الردى . صار الحزن من يجي … ما يخلف بموعده و الصوت مو مثل امس … هذاالتسمعه…صدى) .
استجمعت شجاعتي وحملت الحقيبة وأطفأت نور الغرفة.
ممر دار سكن الاطباء كان خاليا من اي صوت أو صدى.
كان علي ان اصعد الى الطابق الاول في بناية المسستشفى الرئيسية لجمع اغراضي منغرفتي هناك، التي كنت اشترك فيها مع الاطباء المقيمين في ردهة الجراحة البولية.
وانا في الممر الرئيسي حاملا حقيبتي الصغيرة التي احسست ان حجارة صفت فيهالمنعي من السفر. بدت ثقيلة و انهكتني.
وانا في الممر سمعت صوتا جاء بدون تمهيد أو دعوة.
مسافر؟
كان صوت الدكتور منعم الذي يعمل بصفة امنية في المستشفى ويرتدي صدرية بيضاءلكن في جيبه لاتوجد سماعة طبية عادة بل دفتر اسود صغير يسجل فيه ملاحظات غايةفي الاهمية مثلما صرح لنا مرة ونحن نتغدى في بهو المستشفى.
لقاءي الاول المهم مع الدكتور منعم كان في عام ١٩٨٦ بعد تخرجي من كلية الطب.
كان منعم يلقب بمسؤول الكلية الحزبي. مثلنا يرتدي الزي الموحد الذي كان عبارة عنبنطال رصاصي وسترة زرقاء. كان يتصرف كأنه طالب في الكلية ولكننا لم نكن نراه فيقاعة المحاضرات. ولا احد يعرف في اي مرحلة هو. حين بدأت كلية الطب عام ١٩٨٠ كانموجودا وكأنه جزء لا يتجزأ من هيكل الكلية ، قوامها، اثاثها، اشجارها ومختبراتها. ولمتوجد اي سرية حوله. الكل يعرف انه اهم واخطر شخص في كلية طب بغداد . يقف دومافي وسط الساحة الرئيسية وفي يده دفتر اسود صغير .
كان طويلا و نحيفا، اصلع الرأس ويرتدي نظارات طبية مظللة تخفي خلف عدساتها وجهبطل استجواب أُعِدَ خصيصا لمهمة التذكير ان السلطة موجودة في كل مكان وفي ايةلحظة على الارض وفي الفضاء، في الممرات المظلمة والساحات المكشوفة.
بعد تخرجي من كلية الطب عام ١٩٨٦ بدأ عام عسير من عمر الحرب العراقية الايرانية بعدسقوط الفاو في شهر شباط . كان همي الاوحد هو عدم الذهاب الى الحرب بأي وسيلةممكنة.
وبما انني تخرجت من الكلية و تسلسلي كان ١٢ من اصل ٣٨٠ طالبا كان يحق لي ان اقدمعلى درجة معيد في الكلية لتدريس الطلاب في احدى المواد الاساسية وكان هذا هوالسبيل الوحيد لتجنب الموت في العراق انذاك.
فتح التقديم للطلبة العشرين الاوائل من دفعتي.
قدمت اوراقي وبدأ امل هش ينبت في ارض خوفي اليابسة.
تم تحديد يوم المقابلة في عمادة الكلية.
حين جاء دوري ودخلت الغرفة المستطيلة المظلمة لم ارَ رغم انهم كانوا يحتلون الكراسيالرئيسية ، اساتذة الكية وعميدها.
لم ابصر ملامحهم جيداً.
كان هناك شخص يجلس جنب العميد وامامه ملف ضخم يصادر اهتمامك بمجرد ان تضعخطوة الامل الاولى في الغرفة.
كان هذا الشخص هو بطل الاستجواب الدكتور منعم يدٌ على الملف الراقد امامه والاخرىربما على المسدس في خصره يستقبلك بابتسامة حادة مثل سكين تفتح جرحا في صدغك.
يتبع.