الميداليه

الميداليه

صاحب خوام
التاسعةُ صباحاً، طُرقتْ الباب بشدة، فتحتها كان محمد ابو صيبع جارنا وشقيق زميلي ماجد ايام الدراسة المتوسطة، ألقى السلام بوجه متجهّم وأردف قبل ان ارُد على سلامه وجدنا رُفات ابن عمك حسن في مقبرة جماعية في الصحراء على طريق كربلاء وهذه هويته، استلّ الهوية من جيب دشداشته العلوي وناولني إيّاها، رُحتُ انظر فيها مصدوماً، كانت جديدة كأنما صدرت اليوم، قُلتْ ولكن حسن وإخوتي في الرضوانية !!
~ألا تنظر هويته بيدك؟ أقول لك وجدناه هنا في الصحراء قرب معامل الجص، مانزال نحفر هناك ونستخرج الكثير بالتأكيد اخوتك مدفونين هناك، اذا رغبت ان تأتي وتشاهد بنفسك .. تركني واجماً فاغر الفم والعينين وانصرف..
رجال الامن الأحباب كانوا يزوروننا بفترات مختلفة ونعطي النقود لهم وصابون الرقّي والملابس الداخلية لإخوتي أكّدوا لأبي مراراً وجودهم في الرضىوانية ويصفون لنا أشكالهم والعلامة هي الميدالية في جيب حيدر..
في عام ١٩٨٠ حضر ابي دورة الالعاب الاولمبية في موسكو وجلب معه هدايا من ضمنها ميدالية عليها علامة الدورة وتجسيم بارز لسبّاحَين وهما يهمّان بالقفز، كانت جميلة وعزيزة وتعاقبت فيها مفاتيح سيارة أبي منذ ان كانت بولسكي وصولا الى السوبر، كان حيدر يحملها في جيبه يوم الاعتقال فأصبحت العلامة التي نصفها لمعرفته والاستدلال عليه لنوصل اليه او منه خبراً أو حاجة ..
لم يكّل أبي ولم ييأس ولم يعدم سبيلاً من اجل إطلاقهم، بصحبة صديقه القريب الاستاذ الشرقي وعلاقاته الواسعة طرق الكثير من الابواب، زار المحامي محمود صعب الحسن شقيق قائد القوة الجوية وابن عم اخوة الرئيس، استاذ انا كزميل لك اطلب منك ان تتوكل في هذه القضية كما اضمن لك سلامة موقفهم، اعتذر الرجل، عاد ليطلب منه السؤال عنهم بشكل شخصي معرّفاً إيّاهُ باسمائهم واوصافهم وبعلامة ان حيدر يحمل في جيبه ميدالية بالاوصاف كذا. وكغريق يتمسّك بقشّة إلتقى مدير أمن بغداد في ملهى ليلي ثملاً عيناهُ الحمراوان ويداه تعبث بصدور وأرداف الغانيات، لم تكن حملة الرئيس الإيمانية قد بدأت بعد، وقبل الجميع التقى بالمحافظ الذي كان مديراً للأمن العام، بدا دمثاً في حديثه ولكنه لم يعطه بارقة أمل .. رحل أبي ومعه الهم الذي أعطبَ قلبه، ولكني سعدتُ حين شاهدتُ وجههُ على الدكّة، رغمَ وجعه كان يحمل ابتسامة عريضة واضحة، عَنَتْ لَيَ الكثير .
لم أستطع أن أهرب صارَ لزاماً أن اُقابل اُمي وأسألها عن ملابسهم لاني علمتُ ان لاشيء باقٍ غير هياكل عظمية وملابس، كنتُ أقفُ على حافة فقدان الوعي وانا أسمعها مذعوراً تصف لي ملابسهم وكأنهم غادروها قبل ساعة وليس قبل ١٣ عام، بلوز صوف ازرق حياكته على شكل ضفائر طولية تلتوي عند الاردان لتشكل دوائر متعاقبة، بنطلون كابوي ازرق فيه نقاط سوداء متفرقه مِنّه بِيهْ..
حين وصلت الى الارض اليباب التي تنتشر فيها الحفر الكبيرة الناتجة من اخذ الرمل لمعامل الجص كانت هناك مجاميع من الاشخاص كل مجموعة تحفر في منطقة، وقفتُ انظرُ عند أول مجموعة صادفتني كانت الجثث تخرج من الارض هياكل ترتدي ملابس، الملابس تبدو جديدة بألوانها الطبيعية الناصعة لحضة خروجها لكنها سرعان ماتفقد رونقها وتتحول الى اسمالٍ بلون بُني أجرب، يستخرجون محتويات الجيوب ويصفونها بورقة صغيرة ويضعوها بكيس نايلون، وقفتُ وسط الحُفر وأدرتُ عيني في المكان الذي فصلتني دقائق عشر لاأكثر عن اكون فيه يومها، كم شهد من الهول والرعب حيثُ الأجساد تصطفق ببعضها في ظلامٍ دامس مكبلة الأيدي معصوبة العيون وسط ازيز الرصاص وشلالات الرمل المنهمر من كيلات الشفلات .. الجثث التي استخرجوها وضعت على الأرض كأكوام عظام وأسمال والنساء تدور بينها تبحثُ عن الابناء والازواج، بلا شعور بل بلا توجّه مقصود وجدتُ نفسي أقف على كوم من تلك الأكوام جلست على ركبتي ومددتُ يدي في الكيس كي أستل الورقة، إرتطمت أصابعي بشي صَلبْ، إستخرجته، قطعة معدنية دائرية صدأة محنية من احد جهاتها، يبدو أن إطلاقة قد حنتها، فركتها بأصابعي، برز اللاعبان السبّاحان متوثّبان يقفزان ..

(Visited 14 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *