لماذا نخضع للمركزية الحضارية الغربية؟

لماذا نخضع للمركزية الحضارية الغربية؟

 

* حول الإبداع والسرد والحضارة

د. مصطفى عطية جمعة – كاتب واكاديمي مصري 

  إن مفهوم المركزية الحضارية الغربية أنها تحصر النظر إلى الشعوب والثقافات الأخرى في ضوء ثقافة مفكري الغرب وحضارتهم ورؤاهم الخاصة فقط، فيتعصبون لما توافق معهم، فيعدونه راقيا وحضاريا، أما ما خالفهم فهو في درج التخلف، وهوة التقهقر.

  فقد تأسست فالمركزية الحضارية الغربية على إخضاع كل القضايا والثقافات في العالم على القياس وفق المنظور الأوروبي الخالص. وفي عبارة أخرى، فإن أوروبا تغدو، عند أصحاب هذه النزعة ودعاتها، هي المركز الذي يكون الانطلاق منه ثم الرجوع إليه، فهي المنظار الذي لا يدرك العالم، مع شساعته، إلا بالنظر إليه من خلاله. النزعة المركزية الأوروبية التي ترى في أوروبا ذاتا ثقافية جماعية، غير أنها في الحقيقة ذات متوهمة لا واقعية. وبعبارة موجزة: كلما اقتربت من الغرب أنت متقدم متحضر.

  وهذه إشكالية لازمت كثيرا من المفكرين العرب في العصر الحديث، وأيضا الحركة الأدبية والنقدية العربية الحديثة، التي اتخذت من المعايير والقيم الغربية في الأدب والفنون ؛ سبلا للنظر إلى تراثنا وواقعنا المعاصر وأيضا مستقبلنا.  

  والمثال على ذلك السرد بوصفه شكلا إبداعيا وثقافيا وحضارياـ والذي يعد وسيلة أساسية للتعبير الإنساني، لأن الإنسان مفطور على الحكي؛ يحكي متكلما عن حياته وحيوات الآخرين وعما قرأه وسمعه وشاهده ولامسه واختبره، وعايشه وغامره، والحكي مشوق بطبيعته وبنيته وبطريقته، سواء كان من البسطاء أو الأدباء، وفي سبيل ذلك، لا يمكن أن نتخيل ذواتنا دون حكي، ولا أن حياتنا تسير دون مسرودات، وهذا أمر يخص جموع البشر دون استثناءات، وإن كانت هناك شعوب تتفاوت في طبيعة سردياتها، وحجم المسرود في تراثها، وفق لتاريخها الحضاري، وجذور ثقافتها وعمقها، وتصورات شعوبها الكونية والأسطورية والدينية والأدبية والفنية.

    ومن الممكن أن يتشكل السرد بسبل أخرى غير الكلمة والتعبيرات اللغوية، فقد استطعنا أن نتعرف على حضارات سابقة ( مثل الفرعونية والبابلية والآشورية) من خلال نقوشها ورسومها على المعابد والمقابر والقصور وسائر الآثار، وعندما فككنا رموز لغتها، تعرفنا عليها سردا: أساطير وقصص ومعارك وأحداث وتواريخ، فباتت النقوش سبلا للتعبير السردي، وهو ما سنجده في فنون كثيرة وعديدة.

    وبمعنى آخر: فإننا نعبر بالسرد، ونترجم أفكارنا سرديا، ونصوغ أفكار الشعوب الأخرى سرديا، ونعي العقائد والمذاهب عبر حكايات روحية وقصص دينية بجانب التنظيرات، ناهيك عن السرديات الكبرى المعبرة عن الشعوب والحضارات، والتي تبدو في الأساطير وما فيها من إجابات عن أسئلة عقدية عن العالم الآخر، ونراها في السير الشعبية المصاغة صياغة جمعية من مختلف أطياف الشعب وشرائحه، ونجدها في النكات والطرائف التي يسخر بها الشعب من نفسه أحواله، ومن حكامه ومن تقلبات الزمن والجغرافية، وأيضا نتلمسه في حكايات الأمهات والجدات للأطفال، وأكثر من ذلك بكثير في الفولكلور والتراث.

   ومن ثم يكون السرد كمفهوم هو البحث في الحكايات والقصص بكافة أنواعها وأشكالها، والتي تقودنا  إلى التفسير والتحليل للأفكار والمعتقدات والتصورات والتاريخ، وما علينا إلا أن نرصد أنماطه وأنواعه وهيئاته، لتيسير دراسته، على أن نأخذ في حسبان الخصوصية الثقافية التكوينية لكل شعب أو جماعة أو مجتمع.

   فالسرد مشترك بين الأمم جميعا، فلا مجال أن تدّعي أمةٌ أنها متفردة بالتخييل، وتنفي التخييلية عن غيرها من الأمم، فالقضية ليست قضية أشكال سردية بعينها، يُحتفى به، وتعلو به حضارة أو ثقافة على غيرها، وإنما القضية هل استطاعت الفنون السردية أن تعبر عن جوهر حياة الأمة وثقافتها وتصوراتها ونفسيتها الجماعية، وذوات أفرادها ؟ وهل ما قدمته أفاد أبناءها، وساهم في نمو الثقافة والقيم والإبداع الإنساني ؟ وفي الإجابة عن هذين السؤالين، تُحَل كثير من الإشكاليات،

     وبالطبع شتان ما بين أن نتعلم من الحضارات الأخرى، ونزداد ثراء من ثقافتها ومنجزاتها، وما بين أن نقتفي آثارها، فالأولى تثاقف وإن تمادى في الأخذ والنقل والتعاطي، والثانية استلاب وإن تسربل بعباءات تراثية متوهمة

(Visited 6 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *