دكتور / خالد البغدادى
[ إن الخيال غير الفني المستمد من العلم والتكنولوجيا يعادل نفس
القدرات التخيلية عند الفنانين …]
تشير هذه العبارة التي قالها الفنان [ إداورد باولوزي E.Paolozzi] إلى القدرات والإمكانيات الفنية والتقنية الموجودة في العلم والتكنولوجيا وكأنها خيال ملهم ومحفز يعادل المقدرة التخيلية عند الفنانين ، وقد كان باولوزي ذاته يفضل المتاحف العلمية كأماكن للعرض أكثر من المتاحف الفنية ، كما تقوم أعماله على تصميمات تنبع من مصادر علمية وتكنولوجية . ويشير ذلك إلى قابلية الفن لإستيعاب كل المتغيرات الاجتماعية والفكرية والنظريات العلمية والاختراعات التكنولوجية لأن كل هذا يمنح الذاكرة الفنية فضاء أرحب وأوسع للوصول إلى أبعاد فنية وجمالية متطورة .
وقد ميز أمبرتو إيكو – فى محاضرة له بمكتبة الإسكندرية – بين ثلاثة أنواع من الذاكرة التى تحفظ النسق القيمى الإنسانى .. وهى :
– الذاكرة العضوية .. التي هي من لحم ودم ويتحكم المخ في عملها الذي ينظمه.
– و الذاكرة النباتية .. التي تمثلها البرديات الأولي والتي ظلّت تتطور إلي أن وصلت إلي الكتب المصنوعة من الأوراق
– والذاكرة المعدنية .. هي الذاكرة الاصطناعية التي تبدأ من ألواح الطين وحجارة المسلات وتنتهي إلي الرقائق الإلكترونية في ذاكرة الحاسب الآلي التي تعتمد في صناعتها علي السيليكون.
إن أي دولة معاصرة لا تستطيع أن تقوم باستشراف مستقبلي سواء بأجهزتها الرسمية أو من خلال مراكزها البحثية المتعددة بغير أن تبدأ بالتوصيف الدقيق للتغيرات الكبرى التي لحقت بالذاكرة الإنسانية وببنية المجتمع العالمي. وذلك لأن الفهم العميق لهذه التغيرات هو الذي سيسمح لفرق الاستشراف الاستراتيجية بتحديد آثارها على صورة المستقبل . وقد حدثت تغيرات كبرى لحقت ببنية المجتمع العالمي الراهن .
التغير الأول :
يتمثل في انتقال الإنسانية كلها من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج حضاري جديد هو نموذج مجتمع المعلومات العالمي Global Information Society. وهذا المجتمع الجديد الذي ينهض على أساس ما أحدثته ثورة الاتصالات الكبرى والتي تتمثل أساساً في البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت وغيرها من مستحدثات، يعتبر الخطوة الأولى لإنشاء مجتمع المعرفة والذي سيظهر مصاحباً لقيام اقتصاد المعرفة. ومجتمع المعلومات العالمي , ليس مجرد مجموعة مترابطة من تكنولوجيا المعلومات بل إنه لا يمكن أن ينشأ إلا على أساس توافر الديمقراطية والشفافية وحق كل مواطن في الحصول على أي معلومة مجاناً وبسرعة .
والتغير الثاني :
في بنية المجتمع العالمي هو الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة ، حيث جاء تيار ما بعد الحداثة لينقض عدداً من هذه المبادئ.. ويبشر بمبادئ جديدة لعل أهمها جميعاً سقوط الأنساق الفكرية المغلقة التي عادة ما تأخذ شكل “الإيديولوجيات الكلية” التي تزعم أنها تمتلك الحقيقة المطلقة ، كالماركسية الجامدة أو الرأسمالية المتطرفة، أو حتى الإيديولوجيات الإسلامية المتشددة. التى حكمت على نفسها بالفشل المسبق. وذلك لأننا نعيش في عصر الأنساق الفكرية المفتوحة، تماماً كما نحيا في عصر السماوات المفتوحة بحكم ثورة الاتصالات..!!
الأنساق المفتوحة
يعتبر تيار ما بعد الحداثة من أهم التيارات الفكرية التى أنتجها العقل البشرى فى العقود الأخيرة , حيث يتداخل فى فروع المعرفة المختلفة ومعظم نشاطات الفكر الإنسانى الفنية والأدبية والفلسفية , مما أوجد نوعا من الصعوبة فى تحديد دقيق لمفهوم المصطلح للدرجة التى دفعت إيهاب حسن الى القول ..” أن زمن ما بعد الحداثة .. هو زمن استحالة التحديد ..”
أما جان بودريار الفيلسوف والناقد الفرنسى والذى ارتبط اسمه بتيار ما بعد الحداثة , فيرى أن المجتمعات الغربية دخلت عصرا جديدا تماما هو ( زمن ما بعد الحداثة ) وأن العصر الجديد يقوم على أساس ونتائج وتأثير وسائل الإعلام الجماهيرية ومنظومات المعلومات التى ( تلغى المعنى ) وتقفز فوق الكيان الفردى لكل إنسان وإنتمائه القومى والطبقى أو الدينى , وتذيب الأفراد والطبقات فى كتلة واحدة تحل الصور أو اللاحقيقة محل الحقيقة , لأن الصور هى حاليا أكثر أنواع السلع تطورا وإنتشارا وإنتاجا أكثر من أى سلعة أخرى , حيث يذوب التمييز الجوهرى بين الفن والحياة , وبين الحياة وبين تمثيلها , ويصبح التمثيل هو المجال الوحيد الذى يمكن فيه معرفة واقع الخبرة
وقد تغيرت المعايير الفنية منذ الستينات والتى شهدت نهايات فترة الحداثة وقدوم الاتجاهات الفنية المعاصرة – فيما عرف لاحقا بفنون ما بعد الحداثة – وتمثلت فى بداية كسر الحدود الفاصلة بين الفن الراقى والفن الهابط , مثل فن ( البوب ) وما فعله آندى وارهول , فتجاوزت النظرة المتعالية فى ممارسة التجريد بالتقريب بين الجمهور والأشياء الحياتية المحيطة بهم فى ( تجميعات ) روشنبرج , وكانت لممارسات السيريالية والدادية وفنون الأداء دورا بالغ الأهمية فى تحطيم القوالب المتعارف عليها, وأفرزت نتيجة لذلك فن ( الحدث ) وما فعله جورج وجيلبرت حيث تحولت ( الهالة) من (المنتج الفنى) ] الى (الحدث) وكانت النهاية المنطقية لسيادة النظرية الشكلية والتجريد تطورا لفن ( المينمال ) وقابل ذلك ردود فعل عكسية فى اتجاه ( الواقعية الفوتوغرافية ) موازيا لبيئات جورج سيجال وتوسيع نطاق التجميع فيما عرف بالفن ( البيئى ) فتعددت الأساليب والتقنيات وأنواع الفن المختلفة فى الكشف عن الوجود الحقيقى للطبيعة ذاتها فى فنون ( الأداء ) لألان كابرو و( فن الجسد ) مع إيفز كلاين , وفعل روبرت سيمبثون فى مادة الطبيعة ذاتها بموادها الفيزيائية .
وتغليف كريستو للمبانى الشهيرة والستائر الممتدة بين التلال , وتتبلور شتى الأساليب والاتجاهات تحت مسمى ( التجهيز فى الفراغ ) Installation ليضم فى نطاقه الفنون البصرية والأدائية للتعبير عن الواقع البصرى والحركى فى هيئات متعددة تختلف باختلاف الموقع , حيث تحولت ( الهالة) من (الموضوع) كما فى فنون الحداثة .الى (المكان ) المخصص للعرض فى عصر ما بعد الحداثة