الورقة المختومة د. احمد مشتت

الورقة المختومة د. احمد مشتت

الجزء الثاني
احمد مشتت
اذن معي ورقة التجنيد ( خدم وتسرح ) الرسمية الصادرة بمباركة السلطة التي كنت اتحاشى الصدام معها دوما ومعي بركات جلال المنقذ وابتسامته الواثقة من النصر وهو يودعني:
دكتور روح طريقك ذهب.
كان الاتفاق مع جلال ان اذهب الى دائرة الجوازات صباحا وعرض علي ان اذهب الى حي الغدير ونمضي سوية الى الدائرة بسيارته الماليبو الحمراء التي دلني عيها بفخر ونحن نغادر شقته. كان جلال يتحدث عن دائرة الجوازات وكأنها بالكامل تحت امرته.
بعد مغادرتي حي الغدير قررت احتفالاً مشوباً بالحذر – بالتهام ( لفة معلاگ ) ملوكية من عربة مشاوي شهيرة قرب كراج بغداد الجديدة- حي الامين واستكان شاي محترق من مقهى مجاور بث مذياعه بصوتٍ عالٍ نشرة اخبار المساء التي اعادتني من سحابة الفرح الطارئ الى ارض ادمنت الخوف.
تلك الليلة لم انم حتى ولو للحظة. تلك هي المرة الاولى التي ازور فيها دائرة الجوازات المحرمة على الجميع والتي ترمز لقوة السلطة وحضورها المهيمن. كنا نخاف حتى ان نتلفت صوبها ونحن في الباص الذي يمر من الشارع المجاور. ان تكون مواطناً في العراق العظيم يعني ان لا تطالب بأي حق واخطر هذه الحقوق التي تهدد امن البلد هو السفر.
قررت ان اذهب الى الجوازات لوحدي. قلت في نفسي من الممكن ان يكون جلال احد رجال المخابرات وياخذني بالماليبو الحمراء الى مكانٍ لن اخرج منه.
عندما وصلت دائرة الجوازات لمحت جلال راعي الانقاذ في الغرفة الاولى .
من شدة خوفي لم اقرأ اسم القسم. ابتسم لي باقتضاب وجاء الى الشباك واعلن رسمياً عن بدء طلبي لجواز السفر.
سالني عن مهنتي بصوت عالي ليسمع الشخصيين الذي اشتركا معه في الغرفة.
( اعمال حرة )قال الممثل في داخلي.
راح الى شركاءه في الغرفة وتهامس معهم وضحك احدهم وبدا لي ان كل من في دائرة الجوازات يعرف ان الطبيب الجراح احمد سلمان حل ضيفاً على دائرة الرعب.
بعد ان نزلت الاختام على ورقتي الاصلية وباضافة ورقة التجنيد اضيفت اوراق اخرى واختام اخرى واصبحتُ ملفاً.
عاد الي جلال ومنحني الملف الموعود واشارة من راسه الى ان كل شئ مضبوط واشار لي ان آخذ الملف الى قسم الامن.
بمجرد سماعي لكلمة أمن بدأت اضع خطة طوارئ للهروب من الدائرة فيما لو تم اكتشاف ان هذا الطبيب سليل العائلة المشاغبة من اب قضى ثلث عمره في نقرة السلمان بسبب انتماءه السياسي بعد انقلاب شباط عام ١٩٦٣ الى اخوة هربوا من سكين الذبح التي قطعت اوصال العراق في عام ١٩٧٨.
خطتي بالهروب كانت سهلة الغاية ولايمكن تحقيقها مطلقا وغير منطقية وهي ان اركض باتجاه سياج الدائرة و اتوارى عن الانظار . لكن هدف اعداد الخطة الاساسي هو السيطرة على نبضات قلبي المتسارعة من الرعب و التي كان من الممكن رؤيتها بوضوح حتى من خلال سترتي الانيقة التي تستر خلفها رجل الاعمال الحرة.
لم امشي الى قسم الامن. الملف الذي اصبح شريكي وظلي قادني الى هناك دون ارادتي.
في شباك غرفة الامن خرج صوتي من حنجرة لم تعد ملكي:
( السلام عليكم ) ومددت ملفي. عفواً اقصد ان ملفي قدم نفسه الى ضابط امن لو بقيت قرنا من الزمان تتفحص وجهه لترى ابتسامة ولو شحيحة لفشلت. كانت ملامحه جزءٌ لا يتجزأ من سطوة المكان. والسيجارة التي في فمه حافظت على هدوء الملامح وهيبتها.
بصمت ايضا يليق بسطوة اللحظة وهيبتها اخذ الملف واختفى في غرفة تتفرع من القسم. خيم الظلام على حياتي. وبت ادرك ان خطة الطوارئ التي اعددتها مجرد فشل ذريع لأن تاريخي اصبح الآن في عهدة هذا الضابط الذي يمثل على أكمل وجه مبادئ الدولة الغاشمة والجاثمة على حياتي.
تذكرت تفصيلة صغيرة وانا مع جلال في شقته بحي الغدير
قال لي: ( دكتور اني اسهلك المعاملة من كل الاقسام بس قسم الامن انت وربك).
نسيت هذه التفصيل في خضم انفعالي في الليلة السابقة ولكني وانا متسمر امام شباك الالم هذا تذكرته واصبح قلبي ينبض خارج الزمن وممكن سماعه عن بعد اميال.
بعد انتظار عاد ضابط الامن
انت احمد سلمان- لفظها وكأنه يقول لي انت متهم بالخيانة.
( وين جوازك القديم)
لم اسمع جيدا لاني كنت اعد من جديد لخطة بديلة عن خطة الطوارئ الاولى
كرر السؤال بصوت حاد
( وين جوازك القديم)
كانت هذه هي الفرصة الاولى وانا في هذا الدائرة لأقولَ شيئا صادقا.
قلت بثقة استثنائية وبصوت فيه عتاب لممثل السلطة الغاشمة
( ماعندي اي جواز- هذه اول مرة اريد اسافر- لم أجرؤ على القول اول مرة اسافر- حشرت كلمة اريد لتخفيف وطأة الرغبة بالفرار من تاريخ العراق الدامي . اعلنت تصريحي هذا لسيد المكان والزمان في تلك اللحظة، الضابط الذي لم يرفع رأسه حتى الان عن كومة الاضابير على مكتبه الضخم والتي اضافت الى جثته الهامدة تضاريس اكثر تعقيداً
عاد وكرر :
( جيب جوازك القديم- احسن لك)
واسقط ملفي على بقعة ضئيلة فارغة من مكتبه.
لا جواز لي. قلت رغم ان الشك بدأ يساورني
وبدات انا استجوب نفسي
(احمد طلع جوازك القديم)
( والله ماعندي جواز ).
المواجهة احتدت.
نهض من وراء المكتب ورفع الملف وسار بخطوات بطيئة نحو الشباك
ولاول مرة منذ ظهوري على شباكه نظر في عيني
كانت المسافة بين وجهي ووجهه عبارة عن خط رفيع صهلت فيه خيول الخوف لآخر لحظة.
ومرر ملفي بعد ان انزل فيه ختم الموافقة الامنية.
دخل الهواء الى رئتي بعد انقطاع طويل.
دائرة الاصدار- قال لي وعاد الى بقعته المظلمة المليئة بالدخان.
يتبع.

(Visited 8 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *