خليل شوقي فنان عالمي

خليل شوقي فنان عالمي

 

الكاتب والناقد المسرحي : كافي لازم

 

أنا طفل ولد في الظلام..
واعشق الظلام…
أفرح واغني في الظلام…
أمارس لعبة أساسها الظلام..
أصبر بطول بال أنتظر أن يحل الظلام عندها نبدأ لعبتنا الشعبية أسمها (عظيم الضاع) عندما يقذف العظم في خضم الظلام (غالبا ما يكون فج باجة) نبحث عنه للظفر به بدون جائزة مع ذلك نحن فرحين جدا بالفوز .لكن يوما رأيت ضوءآ ساحرآ بعيدا في الجانب الاخر كشف لعبتنا وأفسدها لكني تابعت الضوء شيئآ فشيئآ مبتعدا عن محلتي وأهلي .تسمرت في مكاني وأنا أرى سيارة (بوكس ) يخرج منها ضوء ساطع مسلط على شاشة بيضاء يتحرك داخلها شخوصآ كأنهم نجوم تتلألأ في السماء وهم يتحدثون ويرقصون…يا ألهي انها تسمى(سينما). ماعدت قادرا على الرجوع للبيت مشيت هائمآ إلى الا منتهى ولم يوقفني غير النهر خائفا مرتعدا منذهلآ . ألا اني سمعت بعيدا من ينادي بأسمي وهم اخوتي قادوني إلى البيت ولم أنام تلك الليلة الكبرى على الإطلاق. غير أن قطار العمر بدأ السير يحث الخطى و أصبحت شابا يافعا دخلت السينما بذهن واع متقد واذا بالفلم العراقي الكبير(الحارس) الذي أصبح صيرورتي الفنية ومنه انطلق القرار بأنه لا بد من الولوج لهذا العالم الساحر أنه خليل شوقي مخرج الفلم حلمي الكبير في لقائه والذي فجر في داخلي ينابيع الطاقة الكامنة ودخلت مجال ألفن في مسرحيات النشاط المدرسي وأخيرا تحقق حلمي واصبحت له زميلآ وصديقا في فرقة المسرح الفني الحديث كذلك عائلتة الفنيه الراقية .

من الصعب جدا وأنك في البدايات أن تمثل مع هذا الفنان الذي هو عملاق التمثيل في العراق لكنه بأسلوبه المحبب إلى النفس يجعلك سلسا في الأداء متناغم معه وقد تجاوزت حاجز الخوف والتردد لانه كسبك كصديق مقرب أليه اثناء التمارين فضلا على أنه لا يستعمل عينيه بكثرة اثناء التمثيل كالراحل عبد الله غيث أو الراحل غازي التكريتي.
عندما يدخل فرقته الاثيرة متأنقآ ومتعطرآ تكون قد شاعت الفرحة والجمال في مسرح بغداد ونحن الشباب اطلقنا عليه لقب (الخال) لانه يسأل عن الجميع وبدون تفريق وينظر ألينا كفنانين كبار أيضا فأيام الشتاء الجميله وهو يحتضن المدفئه بين ساقيه نتسارع لتكوين حلقة نصف دائرة حوله نجلب له (الصمون ) ليعمله بطريقته المحببه (التوست) على المدفئة في جلسات سمر قل نظيرها. هذا إلى جانب حرصه على العمل الجماعي التضامني في الفرقة فعندما تكون الفرقة في وضع مادي ضعيف وغير قادرة على تمويل ديكور مسرحية ما فهو أول المبادرين ليأتي مبكرا وقد شمر ساعديه بملابس الشغل ليبدأ بعمل ديكور جديد من مواد مستعمله من مسرحيات سابقة ماسك المطرقة فهو نجارآ ماهر أيضا ويكون عملنا الى ساعات الفجر الاولى وسط الفرح الظاهر وغناء فناننا الراحل وهو يجيد قراءة المقام العراقي بأمتياز وأغاني محمد عبد الوهاب .
احيانا يتخيل لي أن هذا الرجل لم يعش فترة الصبا والشباب فقد بدأ حياة أبآ ورحل أبآ .يوما ما جاء احد الممثلين وهو ثمل في يوم العرض في ستينيات القرن الماضي وكان له عرضا في نادي السكك في مسرحية عنتر وعبلة تلقفه خليل شوقي وقاده إلى الحمام وغسله بالماء البارد و أعاد وعيه ونصحه بعدم تكرار الحالة وتبين أن هذا الممثل يعاني مشاكل في بيته وقد ساهم في حلها بكل أبوة كالمعتاد.
خليل شوقي لم يظهر عليه انزعاجآ يوما وهو يقابل جمهوره بترحاب كبير ولا أخفي شيء عندما أقول عند انتهاء أي عرضا مسرحي مع وجود ممثلين كبار أيضا. يكون هو من اكثر الفنانين ينتظره الجمهور في صالة الانتظار كذلك في الشارع ليس لتوقيع أوتوغراف لهم في أجنداتهم بل لمناقشة الشخصية التي مثلها وطبيعة العرض كذلك تبادل أطراف الحديث فرحآ ممتنآ لهم (هذا هو جمهور السبعينات الواعي المثقف) .
عندما مثل شخصية البخيل في مسرحية بغداد الأزل إخراج الراحل (قاسم محمد) وهي الإبرز على المسرح فنحن طيلة التمارين وهو يمثل بشخصيته التقليدية المعتادة ألا أنه فاجئنا(في الجنرال بروفه) بتحول كبير ومذهل في فهم الشخصية اذ حول طبقته الصوتيه الفخمه من النوع (الباص) إلى طبقة (السبرانو) الرفيعة جدا وكان اكثر ابهارآ وتأثيرآ وعندما سأله احد الصحفيين في المقابله اجابه من فهمه الشخصية البخيله بأنها تبخل حتى في إطلاق صوتها وهي إجابة ذكية بالتأكيد وعندما سألته انا شخصيآ لماذا تأخرت طيلة الشهور من التمرين في هذا الفهم المتغير قال لقد حيرتني هذه الشخصية فأنا اريد أن أظهره أنه مختلف حتى عن زملائه البخلاء وعن حالات البخل جميعآ .وقد حصل جائزة أفضل ممثل في ذلك ألموسم والمفارقه بالأمر أن ابنته الفنانة الكبيرة مي شوقي هي الأخرى اخذت جائزة أفضل ممثلة في نفس المسرحية وبنفس الموسم أنها لعمري سابقة على المستوى المحلي و ربما الدولي والعالمي أن يأخذ رجل وابنته هذه الجائزة وبهذه الطريقة المتزامنة.
أما من ناحية الالتزام في المسرح فأنه النموذج الامثل للألتزام والانضباط ليس على مستوى الحضور المبكر فحسب بل اثناء التمرين أيضا اذ يدخل في حوارات معمقة مع المخرج وبقية العاملين ولا يفرق بأن يكون المخرج رائد أم شابا فالمسرح واحد بكل الاحوال فأنه بالنتيجة هدفه توعية الجمهور لذلك هو يكون طالب مطيع على خشبة المسرح رغم التزامه اليومي في السينما الإذاعة والتلفزيون.
حقيقة صعب على هذا الفنان أن يغادر العراق رغم عشقه العظيم للعاصمة بغداد الذي يتغنى بها دائما غير أن ضغوطات سياسية واجتماعية اجبرته على المغادرة بعينين دامعتين وقلبا يتوق للبقاء الا أنه قلع قلعآ رغم تشبثه الكبير.
وبعد التغير عاد إلى حبه الكبير بغداد ومسرح بغداد وافتتحه بعد الترميم ألا أن قوى الشر والظلام جاءت في اليوم التالي فأذا بمسرح بغداد قد هدم سياجه الخارجي والأبواب الخارجيه كذلك الشبابيك وهي رسالة واضحة من بعض الاصوليين بوجوب غلق المسرح والمغادرة والذي أصبح بعد هذا الحادث مكبآ للنفايات.
رحل خليل شوقي إلى منفاه ثانية متأثرا بهذا الجرح العميق وغادر الدنيا في حسرة وأسف على العراق العظيم .رحل (انطوني كوين العراق) لروحه الطمأنينه والسلام والذكرى الطيب .

(Visited 9 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *