عبد الرضـا عليّ
في الحادي والثلاثين من ديسمبر 2021م، فقدت الثقافة العربيّة ناقداً كبيراً، وأديباً مؤثّراً، ومفكّراً ذكيّاً، وأكاديميّاً شاخصاً، ومترجماً حاذقاً هو الأستاذ الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة المصريّة الأسبق عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاماً قضى ما يقربُ الخمسين منه في الكتابة الفكريّة المستنيرة، والبحث العلمي الجاد، والتأليف النقدي الرصين.
تعرَّفتُ إلى الدكتور عُصفور، أو تعرَّفتُ عليهِ سنة 1975م، حين سجَّلتُ رسالتي للماجستير الموسومة بـ (( الأسطورة في شعر السيَّاب)) بإشرافِ أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي (1911-1997م) رحمها الله التي كانت أُستاذةً في قسم اللغة العربيّة بجامعة القاهرة حيثُ كان الدكتور عصفور مدرّساً فيه، وقد قال لي بعد الموافقة على تسجيل الرسالة : أنتَ محظوظ يا رضا لأنَّ أُستاذتي القلماوي لا تشرفُ على أحد إلاّ إذا تأكّدتْ من اقتدارهِ،وجديَّتِهِ، ونباهته، ولم أشأ أن أُعلمهُ أنَّها كانت المشرفة على رسالتي للدبلوم العالي في معهد البحوث والدراسات العربيّة العالية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة الموسومة بـ(( عبد الرحمن الربيعي بين الرواية والقصّة القصيرة)) التي نلتُ عليها درجة الأمتياز، لأنَّ إدارة معهد البحوث التابع لجامعة الدول العربيّة، وسفارة جمهوريّة العراق في القاهرة لا تسمحان للطالب أن يجمع بين دراستين اثنتين في وقتٍ واحد،علماً أنَّ الدكتورة القلماوي كانت تغض الطرف عنّي،وتعينني في كتمان الأمر⁽¹⁾ .
توطّدت علاقتي بالدكتور جابر عُصفور،وتوثَّقت، وأمسينا نتبادل الزيارات، وفي إحدى زياراتي له بمسكنه بحيّ المهندسين بالقاهرة تعرَّفتُ على رمزِ اليمن الثقافي والوطني الشاعر عبد العزيز المقالح حفظه الله، وأحاطه بالأمان.
*****
حين تعرَّفتُ عُصفور سنة 1975م، كان يبدو أكثر التصاقاً بالتراث العربي النقدي، والبلاغي، لكنَّه لم يكن منغلقاً أبداً، وسرعان ما جمع إلى التراث ما كان لصيقاً بالحداثة، والتحديث، فواجه العتمة والظلام باستنارةِ العقل، واستضاءته، فكان خير مدافع عن حركة التنوير وإعمال العقل في فهم الواقع الجديد، والتخلّي عن حالات العقم التي توجد بالماضي، والتركيز على حالات الإشراق التي فيه، ولعلَّ كتابه (( هوامش على دفاتر التنوير)) ما يؤكِّدُ ذلك.
لكنَّ بعض كتاباته الفكريّة، والأدبيّة قد تعرَّضتْ إلى مناقشات لا تخلو من حدّة،كما في بعض الردودِ التي تلقّاها كتابه (( ضد التعصُّب))، فقد أنشأه ضدَّ تلك التيارات التي أشاعتها بعض المجموعات الدينيَّة المتطرِّفة، فرأى بعضهم فيه تجميعاً لا يخلو هو الآخر من تعصّب كذلكَ، كما أنَّ كتابه الفكريّ الأدبيّ (( زمن الرواية)) قد تعرَّض هو الآخر إلى ردود لا تخلو من بعض التبرُّم، فقد رأى فيه بعضهم تحاملاً على الشعر، وتمجيداً للسرد مع سبق الإصرار والترصّد، مع أنَّ السردَ المحكم ( كما يرون) لا يمكن أنْ يتخلّى عن الشعريّةِ التي تجعل النصَّ يُحلِّقُ عالياً وكأنَّه الشعرُ صياغةً، وبذا لا يمكن التخلّي عن الشعريّة أبداً حتى في الفنِّ القصصي، أو الروائي، وإن كان الشعرُ مشروعاً فرديَّاً .
*****
لقطــــــــات:
1- جمعتني وإيّاه ( في صنعاء) في شهر آب من سنة 1999م مناقشة أُطروحة دكتوراه عنوانها (( شعريَّة القصّة القصيرة في اليمن)) أعدَّتها الطالبة اليمنيّة آمنة يوسف، وكانت بإشراف رمز اليمن الوطني والثقافي الدكتور عبد العزيز المقالح ، وكانت مناقشته حصيفة، ولم تقدح بالأطروحة، ومنهجها، ولعلَّ مناقشتي العلميّة للطالبة في المنهج، والتحليل، والتفسير،وما تعلّق بالأفكار، وغير ذلك هي التي جعلته يصطفيني في تلك السنة، فيدعوني بوصفهِ رئيساً للمجلس الأعلى للثقافة بمصر للمشاركة في(( مؤتمر الأدب العربي والعالميَّة)) الذي عُقد بمصر من 4 -7 كانون الأول ( ديسمبر) 1999م، فألقيتُ فيه ورقةً كانت بعنوان [[ جدليّة العالميّة، والمحليّة في استخدام الرموز/ شعر الروّاد أنموذجاً]] ⁽²⁾، كما كان له الفضل أيضاً في دعوة المجلس الأعلى الثقافة بمصر لي ثانيةً للمشاركة فــي (( الملتقى الدولي الثالث للترجمة/ الترجمة ومجتمع المعرفة)) الذي عُقد من (11 إلى 14) شباط( فبراير) سنة 2006م، فألقيتُ فيه ورقةً كانت بعنوان [[الترجمة والمتلقّي]]⁽³⁾.
2- كان الدكتور جابر حريصاً على إقامة بعض الصباحيّات الشعريّة، والثقافيّة في قسم اللغة العربيّة بجامعة القاهرة في سنة 1975م، (وما تلاها) للمبدعين الذين تنبأ بإبداعهم المستقبلي بعد أن أحسَّ أنهم يتعاطون مع الأسئلة الملحّة للإبداعِ الجديد المختلف، فيصنعون نصوصاً تثير الإدهاش،وتستحقُّ الإشادة، وكان حريصاً أيضاً على أن يتولَّى هو بنفسهِ التعريفَ بالمبدع، وما يميّزه، وكنتُ من أشدِّ الراغبين في حضور تلك الندوات، ولعلَّ اهتمامه المبكّر بالشاعرين المصريينِ الستينيينِ: محمّد عفيفي مطر( 1935-2010)، وأمل دُنقل (1940-1983) خير دليل على منحاه ذاك، فقد كان الأول شاعراً يميلُ إلى كتابة النصوص العصيّة المتفلسفة، بينما كانت نصوص الثاني تميل إلى الثوريّة التحريضيّة المتبرّمة بوصفها نصوصاً تنتهج منحى الواقعيَّة النقديَّة في الطرح والتناول..
ولعلَّ قصيدتُهُ التحريضيّة [[ الكعكة الحجريّة ]] كانت أجرأ قصيدةٍ استخدمت أُسلوبَ وخزِ الإبرِ ضد الرئيس السادات أمَّا قصيدة دُنقَل المحذِّرة الناهية [[ لا تُصالحْ ]] التي ساعد عصفور على نشرها في إحدى الدوريّات في العراق، فقد كانت دليلاً على ذلك الاهتمام.
كما كان الدكتور عصفور وراء اختيار كلمة الأستاذ الدكتورعبد العزيز المقالح الموسومة بـ [[أحاديث وذكريات]] لتكون مقدمة لأعمال دُنقل الشعرية الكاملة التي صدرت بعد رحيله سنة (1983م)، وقد أخبرني جابر بذلك شخصيّا.
3- وفي زيارة الدكتور جابر لبغداد مدعوّاً لحضور مهرجان الأمة الشعري سنة 1985م، طلب منّي أنْ أحقّقَ لهُ رغبتينِ، كانت الأولى أنْ أريه أحياء بغداد الخلفيّة الحقيقيّة بعيداً عن البروتوكول (والهلُمّة على حدِّ تعبيره) الذي تقوم به لجان المهرجان من زيارات لأماكن معدّة سلفاً، فأخذته لبيتِ شقيقتي (أم فاضل) الكائن في حيّ العامل في كرخ بغداد، وتناولنا عندها الغداء، ففرحَ كثيراً جدّاً لكونه رأي الأحياء الفقيرة، وشاهد ناسَها البسطاء،وتعرّف على الوجه الحقيقي لبغداد، وحين خرجنا من بيت أُختي حقّقتُ له رغبته الثانية، فقد طلب منّي أن يتعرَّفَ على أستاذي، وشيخي العلاّمة عليّ جواد الطاهر، وحين التقيا (بمنزل الطاهر الكائن بالجادريّة) تحدَّثا على نحوٍ يظنُّ من يسمعهما أنهما يعرفان بعضهما بعضاً منذ زمن بعيد، وقد أشرتُ إلى لقائهما ذاك في صفحة:60 من كتابي (( الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون)) الصادر عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر ببيروت سنة 2009م.
4- أمَّا آخر لقاء جمعني بالكبير جابر،فقد كان في شباط سنة 2018م، حين فاجأته بزيارتي له في شقّته بالقاهرة الكائنة في 3 شارع مصدّق، فأبدى لي رغبة في زيارة لندن في صيف سنة 2018م، لكنَّ الزيارة لم تتحقّق للأسف، وفي اليوم نفسه، وبعد مغادرتي لشقّته نشرتُ في نافذة تواصلي الاجتماعي وأنا بالقاهرة خبراً عن ذلك اللقاء بعنوان (( زرتُ الكبير جابر)) مع بعض الصور التي جمعتنا.
رحم اللهُ صديقي الناقد الكبير الأستاذ الدكتور جابر عُصفور، وطيَّب ثراه، وأسكنه الفردوس الأعلى، فقد كان واحداً من صانعي وجدان أُمَّتهِ ثقافيَّاً.
إحـــــالات :
ـــــــــــ
(1) جاء في مقدمة الطبعة الثانية من كتابنا ((الأسطورة في شعر السيّاب )) ما يشي بهذا الأمر، وإليكم بعضه: ((غمرهُ فرحٌ كبير حين علم بمنحة زمالة معهد البحوث والدراسات العربية العالية ، للحصول على دبلوم عال في آداب اللغة العربية . وقبل أن يشدَّ الرحال إلى القاهرة فكّر أنه يستطيع أن يستغلَّ فرصة وجوده في القاهرة لإكمال دراسته العُليا في كليّةِ الآداب – جامعة القاهرة للحصول على الماجستير (… ) غير أنه خشي أن يعلمَ به أحدٌ فيحرم من الزّمالة ، لأن شرط الزمالةِ ألاّ يجمع الطالبُ بين أيةِ دراسةٍ ، ودراسة المعهد… فكتم الفكرة في نفسه، وبدأ يخطط لتنفيذها دون علمِ أحدٍ، فقدَّم أوراقه إلى جامعة القاهرة عن طريق سفارة جمهورية مصر العربية في بغداد، ليضمنَ لنفسه كرسيّاً في الدراسات العليا هناك قبل مضيّ الوقت … (…)وقبل حصولِه على دبلوم المعهد بأسبوعٍ اكتُشِفَ أمرُهُ (وتلك قصة أخرى ) فماذا يفعل ؟.. لقد وجدَ أنَّ من الصواب له أن يعترفَ بمخالفتهِ لشروطِ الزّمالة اعتراف المصمِّمِ سلفاً، غامزاً إلى أنه لن يأسفَ إذا ما كان قرارُ المعهد سلبياً، فمتى كان طلبُ العلم مرفوضاً إذا كان الطالبُ قادراً على الجمع بين أكثر من دراسة؟… وتريث مديرُ المعهد مشكوراً في اتخاذ القرار، إذ لم يبقَ على امتحان الدبلوم ، ومناقشة البحث غير أسبوعٍ واحدٍ فقط … وحين دخل الامتحان كان مصمماً على أن يُشعِرَ مدير المعهد، وأساتذته أنه أهلٌ لحسن الظن. فحصل على دبلوم المعهد بتقدير ممتاز، فشفعت له النتيجة … وكان لمدير المعهد الأستاذ صفيّ الدين أبو العز الفضل الكبير في حسم هذه القضيّة لصالحه، فشكرَهُ معترفاً بالجميل.
ثم بدأ يسابق الزمن في إنجاز «الأسطورة في شعر السيَّاب» لأنه كان على عُجالةٍ من أمره، فكان يكتب فصولها تباعاً، ويقدِّمُ كل فصل ينجزه إلى أُستاذته الفاضلة فتقرأ له، وتناقشه في كلِّ ما يكتب بمواعيد ثابتةٍ لم يرَ مثيلاً لها ، فتعلَّمَ منها احترامَ الزمن. وضبط المواعيد، فسار في فصوله إلى أن انتهى من الرسالة، وهاهو اليوم يعيد طباعتها ثانية…(…) ….وإنْ نسي فلن ينسى مساعدة الأستاذ الصديق الناقد الدكتور جابر عصفور، فقد فتح له مكتبته، ولم يبخل عليه بمشورة أو فضل ، فله يوجه خالص العرفان بالجميل… نينوى في 24. 2. 1983.
(2) و(3) تمَّ نشرهما في كتابنا الموسوم بـ (( أوراق في تلقي النص الإبداعي ونقده)) دار الشروق،عمان/ الأردن، 2006م.