محمد عبد الجبار الشبوط
يشيع في الاوساط الاكاديمية والكتب المدرسية في اوروبا والعراق ان الديمقراطيةكممارسة سياسية ولفظة نشأت في اثينا في القرن الخامس قبل الميلاد.
لكن البحوث والدراسات منذ اواخر النصف الاول من القرن الماضي الى اليوم اثبتت بالادلةالتاريخية واللغوية خطأ المقولتين ومجافاتهما الكاملة للعلم الصحيح القائل بانالديمقراطية نشأت في بلاد الرافدين قبل اثينا بالاف السنين.
ولعل الباحث الاميركي ثوركيلد جاكوبسون، وفي حدود اطلاعي المتواضع، هو اول مناشار الى الجذور العراقية للديمقراطية، وهذا ما يستحق ان نفخر به كون بلدنا مهدالحضارة الانسانية في مختلف جوانبها.
فقد نشر جاكوبسون بحثا قيما في العدد ٣ المجلد ١١ من مجلة دراسات الشرق الادنىالصادر في ١٩٤٣، اي قبل ٧٦ سنة، حول ما سماه “الديمقراطية البدائية في واديالرافدين“. ولنا ان نتحفظ كثيرا على المصطلح، فقد كان الاجدر فيه ان يكون بداياتالديمقراطية في العراق. والفرق كبير بين مصطلحي “الديمقراطية البدائية” و “بداياتالديمقراطية” حيث لا نعرف بداية للديمقراطية في العالم غير ما نعرفه عنها في العراق.
ومما قاله في البحث الذي القاه لاول مرة في عام ١٩٤١: “توجد مؤشرات توضح ان العراقالقديم في عصر ما قبل التاريخ كان منظما من الناحية السياسية وفقا للقواعدالديمقراطية، على عكس ما ال اليه الحال في المراحل التالية حيث كان الحكم فيهااوتوقراطيا.الادلة الموجودة توضح ان الشؤون العامة كانت تدار من قبل مجلس الكبار لكنالسيادة العليا كانت تتمثل في مجلس عام مؤلف من الذكور البالغين الاحرار. يقوم هذاالمجلس بحل النزاعات التي تحصل في المجتمع، ويتخذ القرارات في الامور المهمة مثلالحرب والسلام، وكان بمقدوره اذا تطلب الامر ان يفوض احد اعضائه السلطة العليا.”
وبعد جاكوبسون توالت البحوث والدراسات التي تؤكد صحة اكتشافه وقد ذكرت بعضهافي كتابي “مستقبل الديمقراطية في العراق” الذي كتبته في لندن عام ١٩٩٢. والفالباحث الفليبيني راؤل مانغلابوس كتابا بعنوان “ارادة الشعوب: الديمقراطية الاصيلةفي المجتمعات الغربية” (صدرت ترجمته العربية عام ١٩٩١ اكد فيه ان الديمقراطية عراقيةالمنشأ.
ولعل احسن ما كتب في هذا الموضوع حتى الان هو كتاب “قصة حياة وموتالديمقراطية” للباحث الاميركي جون كين الذي استغرق ١٠ سنوات في كتابته ونشره عام٢٠٠٩.
ومما جاء في هذا الكتاب القيم ان كلمة “الديمقراطية” الصغيرة أقدم بكثير مما يقولهالكتاب التقليديون حول هذا الموضوع. واثبت بالادلة الملموسة ان جذور هذه تعود الكلمةإلى الخط الخطي ب Linear B للعصر الميسيني ، قبل سبعة إلى عشرة قرون من ظهورالديمقراطية في اثينا، في حضارة العصر البرونزي المتأخر (حوالي 1500-1200 قبلالميلاد) التي كانت تتمحور حول ميسينا والمستوطنات الحضرية الأخرى في البيلوبونيز.
ويقول كين انه ليس من الواضح كيف ومتى تعلم الميسينيون استخدام الكلمة المكونة منمقطعين dmos ، للإشارة إلى مجموعة من الأشخاص العاجزين الذين كانوا يمتلكونالأرض في السابق ، أو الكلمات المكونة من ثلاثة مقاطع مثل damokoi ، والتي تعنيالمسؤول الذي يتصرف نيابة عن ال dmos. وما هو غير واضح أيضًا هو ما إذا كانت هذهالكلمات ، وعائلة المصطلحات التي نستخدمها اليوم عند الحديث عن الديمقراطية ، لهاأصول في الشرق ، على سبيل المثال في الإشارات السومرية القديمة إلى دومو ، أو“السكان” أو “الأبناء” أو “الأطفال“ من مكان جغرافي.
وقال ان كشوفات علماء الآثار المعاصرين تؤكد أن الممارسة الديمقراطية للتجمعات ذاتيةالحكم ليست أيضًا ابتكارًا يونانيًا.
يقول كين ان مصباح الديمقراطية القائمة على التجمع اضاء لأول مرة في “الشرق“، فيالأراضي التي تقع فيها كل من سوريا والعراق وإيران المعاصرة. ومنها انتقل شرقا، نحوشبه القارة الهندية حيث أصبحت الجمهوريات التي تحكمها المجالس شائعة في وقت مابعد 1500 قبل الميلاد. ثم انتقلت أيضًا غربًا ، أولاً إلى المدن الفينيقية مثل جبيل وصيدا ،ثم إلى أثينا.