د . احمد مشتت
في شهرين تشرين الاول من عام ١٩٨٧ صدر امر انفكاكي من مستشفى مدينة الطب حيث امضيت سنة وثلاثة اشهر هي مدة الاقامة الدورية بعد التخرج من كلية الطب. الاقامة الدورية هي من اجمل سنوات الطبيب بعد التخرج واكثرها ثراءا ومعرفة .
كانت فترة اختبار لكل ماتعلمته في كلية الطب وبداية لطريق المسؤولية الصعب في الحفاظ على حياة المرضى. كنا نقطن في دار سكن المقيمين التي احتلت احدى الطوابق العليا في مدينة الطب وكنا نقضي معظم ايام الاسبوع بعيدا عن الاهل ومع ساعات نوم قليلة. ورغم ذلك كان حماسنا في العمل لايضاهيه اي شعور آخر. كان العالم اصغر من قبضة اليد والاحلام ليس لها حدود.
الراتب الذي كنت اتقاضاه ٩٨ دينارا عراقيا ومدينة الطب كانت تقدم خدمة صحية راقية تستند الى معايير علمية صارمة.
انفككت من عملي بالتحديد يوم ٢٥ من شهر تشرين الاول من عام ١٩٨٧ والانتهاء من الاقامة الدورية كان يعني نهاية الحياة المدنية بالنسبة لي في عام الحسم من عمر الحرب العراقية الايرانية في العراق.
امر الانفكاك الاداري كانت تفوح منه رائحة الدخان والشظايا والاحلام المصادرة.
انفكاك للالتحاق بالخدمة العسكرية الالزامية
رقم الكتاب الاداري ٥٥٦٦.
وحين ختمته موظفة الاضابير الشخصية في ادارة مستشفى مدينة الطب كان لدي احساس ان هذه كانت اخر مرة ارى فيها امراءة بتنورة وصوت ناعم. وقع اداة الختم على ورقة خلاصة الموظفين بدا وكأنه سقوط نيزك ضخم على الارض التي اهتزت من تحتي.
كان علي اولا ان احلق شعري ليليق بالجندي الذي ساكون. مازحني الحلاق الذي كان يعرفني منذ زمن
دكتور راح ينطوك رتبة ضابط
اجبته وانا نظر في المرآة لهذا الكائن المُساق الى الحرب والذي بدأت لاأميز ملامحه القديمة.
جندي مكلف قلت باستسلام كامل للدور الجديد.
اول محطة للالتحاق بالجيش كانت مدرسة الطبابة العسكرية. كان برنامج التدريب ومسلسل الاهانات والحط من انسانيتك يستمر لمدة ثلاثة اشهر كاملة.
في اول يوم تم تجهيزنا انا واصدقائي من دورة الفاو الملابس العسكرية الفضفاضة والبساطيل الثقيلة وطقس التوزيع كان مجرد تحضير مركز للتخلص من ادميتك في الايام المقبلة.
في مدرسة الطبابة العسكرية كان اغلب العرفاء الذي يقومون بمهمة التدريب الجسدي هم من خريجي اكاديمية الفنون الجميلة.
كانت قسوتهم لاعلاقة لها بالفن الذي تعلموه. المبدأ هو التعامل مع الوافدين الجدد من الاطباء الذين كانوا رمزا للمدنية بفظاظة لاسقف لها تبدأ من الاهانات الشخصية الى حفر ندوب مزمنة من القهر في اجسادنا التي تعرفت للتو على عبارة الانفكاك للالتحاق بالخدمة العسكرية الالزامية.
في اول يوم لي في مدرسة الطبابة العسكرية حلت وجوه واصوات العرفاء محل صوت موظفة الاضابير الشخصية الناعم في ادارة مدينة الطب وهي تختم الامر الاداري وتلقي علىَّ نظرة وداع تتكرر كلما مر يوم اخر في مدرسة الطبابة.