الأهوار حكايات وأساطير وتواريخ قهر.  أساور طاغور

الأهوار حكايات وأساطير وتواريخ قهر. أساور طاغور

نعيم عبد مهلهل  / فرانكفورت

مرة في خانقين حيث جغرافية الجيش مثل ناقة ابن بطوطة تحطُّ رحالها بأوامر لهجتهجلفية بصوتِ العريف (ضمد): شدوا (يطغاتكم) وكلبوا المدافع بمؤخرة الشاحنات فعندنانقلة.

والنقلة في الجيش تعني العسكرة بمكان غير هذا المكان حتى لو كانت المسافة ميلاًواحداً، وكنا نلتقط خبرها قبل ساعات فنتهيأ لطارئها بالمؤن والصلاة، خاصة عندما تكونهذه النقلة من الأماكن الهادئة إلى الربايا الساخنة في حرب الشمال.

وذات مرة انفتحت كتيبتنا في موضع قتالي أمام بوابة خسروي الحدودية في خانقينأيام حكم الشاه وقريبة المجمع الحكومي لنقطة الجمارك، وعندما أخبرونا أن في المجمعحانوتاً لبيع المواد الغذائية ذهبت أنا وزميل لي في الحظيرة هو أيضاً معلم سِيقَ مثليإلى خدمة العلم بعد تخرجه من دار المعلمين، وكان من أهل مدينة شهربان لنشتريالسكائر والشاي والسكر، وقرب دكة إسمنتية قال: لنجلس هنا في هذا المكان التاريخي،آه لو كانت لدينا كاميرا فتوغرافية، فالصورة على هذه الدكة تعيد جلوس رجل حائز علىنوبل يوم مر من هنا والتقط صورة تذكارية.

قلت: وهل جلس عليها أينشتاين أو توينبي مثلاً.؟

قال: كلا، لقد جلس عليها الشاعر الهندي طاغور، والتقط صورة تذكارية مع مستقبليه منأهل خانقين يوم أتى العراق زائراً قادماً من إيران.

عشت بنشوة لحظة أن تجلس على دكة جلس عليها شاعر تعشق قصائده، والمثير فيلحظة جلوسي على الدكة الإسمنتية هو مرور قطيع من الجواميس لأناس يربّونها،ويسكنون في ضواحي المدينة، ليسوا أكراداً، بل أناس نزحوا من الجنوب والوسطواستقروا هنا طلباً للرزق عندما كانوا يفترشون حافة الطريق الواصلة إلى الحدوديبيعون القيمر لقوافل الزوار الآتين من العراق لزيارة الأماكن المقدسة في إيران. أوالقادمين لزيارة العتبات المقدسة في العراق.

صورة الشاعر مع مستقبليه وصورة القطيع، أتت بذكرياتها بعد زمن في متعة البردالخارق بشعاع شمس مشرقةٍ يحفزنا دفئها على الاقتراب من ضفاف الأهوار ومطالعةالكتب التي كنا نجلبها معنا لنقضي بها رتابة الوقت الطويل الذي نعيشه بعد نهاية دوامالمدرسة.

يومها كنت قد جلبت معي كتاب لأشعار طاغور بترجمة بديع حقي، وتلك وحدها من قربتإليَّ المدائح الروحية لهذا الشاعر الكبير، وكانت هناك قصيدة في الكتاب هي من صنعتروعة التفرد الوجداني في كره الماديات واللجوء إلى الصفاء الخالص في أرواحنا عبرقصيدة ما زلت إلى اليوم أتذكّر تفاصيل رؤيتها كلما أتيت للجلوس على مصاطب النزهةفي ضفاف نهر الراين، لأتذكر تلك الأمسيات الخالدة في روزنامة عمري، تلك التي كنا نقرأفيها وعلى ضفاف ممالك القصب المائية الكتب ونسمع الأغاني ونتمنى الاقتراب من المدنالتي تشعر أجفانها بنعاس ممثلاتها الفرنسيات والإيطاليات والأمريكيات.

مختصر رؤى تلك القصيدة: أن كاهنا عظيماً كان يقف على نهر الغانج ويتأمله وكان معهتلميذه، وكان بيديه أسوارتان من الجوهر الثمين، فجأة رمى الكاهن واحدة من هاتينالأسوارتين في النهار الهائج، فتعجب التلميذ وقال: مولاي كيف ترميها إنها ثمينة، ترىأين استقرت الآن لأعوم في الماء وأجلبها، فرمى الكاهن الإسوارة الثانية وقال: حيث وقعتالإسوارة الثانية.

هذه القصيدة، أشغلت في رأسي متعة عدم الاكتراث للمادي والثمين في عالم أهل الأهوار،فهم لا يهتمون لما يفقدون؛ لأن القدر رسم لهم صورتين ثمينتين من الفقدان وهما مسجلتانبقلم السماء، أما فقدان البشر أو الدواب، وهذين الهاجسين ربما في سعرهما الروحيأثمن من أي جوهرة في هذا العالم.

لهذا لم يكترث شغاتي لدى قراءته لتلك القصيدة التي نبهته عليها وقال: كهنتنا هنا، لايملكون الأساور، فقط يمتلكون الأمل إنهم في سبيل الحسين (ع) يحصلون على رزقهم مندموعنا التي نذرفها لأجله. وتلك الدموع هي أيضاً أساور من الجواهر…….!

(Visited 16 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *