د. هاشم عبود الموسوي – كاتب عراقي
برغم أنني أُمارس الكتابة الأدبية والعلمية منذ فترة ليست بالقصيرة.. إلا أنني طرحت هذا السؤال على نفسي من زمانٍ بعيد، وتحرّجتُ أن أخوض فيه.. لشعوري بأن الوصول إلى شواطئ آمنة ليس مضموناً.
وعندما أطرح هذا السؤال مرّةً أخرى، آملاً في مساهمة القارئ والمتلقي.. في إغناء الموضوع.. بحيث نستطيع أن نضع زمنيات، ربما تدلنا إحداها على منهجية مختارة للكتابة الإبداعية.
أنا ليس لديّ وصفة جاهزة، لكنّي سأُحاول أن أعرض بعض الطروحات.. وأترك المجال مفتوحاً للجميع للمشاركة..
أرجو ألا يكون السؤال المطروح صعب الإجابة…
تقع إشكالية العلاقة بين الكاتب وسلطته المعنوية في نطاق فاعلية النص لا خارجها، وبالدرجة الأولى يكتسب كل نص أهميته وضرورته من قدرته على جعل سلطته المعنوية خارج الإغراء أو الخضوع أو الامتثال.
كان الروائي السويسري “الألماني الأصل” هيرمان هيسه، يردد دائماً أنه يرفض الامتثال بكل أشكاله: الديني، المذهبي، العقائدي، وباستطراد أكثر، كل سلطة أخرى تُعيق فاعلية النص الروائي وتُحبط دينامية سلطته، أو تفرض عليه القيام بوظائف مباشرة.
هذه النظرة إلى العمل الإبداعي، ربما تكون طبعت بطابعها سلوك معظم الكتاب الطليعيين في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تكون أسهمت في التأسيس لتيارات أدبية وفكرية وفنية، وضعت النص الكتابي الإبداعي في مستوى موازٍ لسلطة المؤسسة السياسية والدينية، ويفهم من رفض “هيرمان هيسه” كل امتثال ديني أو عقائدي أن الكاتب ينشد وقبل كل شيء تحرير نصّه من كل ما يُعيق حريته في الوصول إلى الملتقى.
طبقاً لهذا المفهوم نشأت النظريات الأدبية الشمولية التي تقول بأن ما يُسمّى بـ”الإلتزام” إنما هو نمط الامتثال لسلطة العقيدة السياسية أو الدينية، وأن ذلك أفضى في النهاية إلى ظهور أدب دعائي همّه الترويج لشعارات وأهداف وأفكار محددة. لقد طوّر “رولان بارت” مفهوم حرية النص هذا، في الثقافة الفرنسية على نحوٍ خلاق،لكافة المفاهيم وذلك عندما جعل من “الامتثال” نوعاً من الخيانة الأدبية للنص.
وفي ثقافة اليسار العربي المعاصرة يفهم الالتزام أو “الأدب الملتزم” على انه التبسيط الشديد ليصبح فى متناول الجميع وجعله من بين الاهداف المهمة للنضال السياسى ، بحيث غدا كل كاتب لايتّخذ من هذا المفهوم مرشداً في عمله الأدبي والفني، كاتباً منعزلاً غير “ملتزم”. ويبدو أن ثقافتنا العربية قولبت منذ الخمسينات من هذا القرن، وعلى يد مجموعة مرموقة من الكتاب والنقاد العرب، هذا المعيار الغريب حتى أصبح كل نص جديد وطليعي ومبشّر بالحداثة، نصاً مضاداً ومناوءاً، وجرى رفضه بالتالي من دون مسالمة نقدية، ويكفي للتدليل على ذلك، التذكير بمصير الكثير من النصوص الأدبية الفنية الطليعية التي قدّمها أدبنا العربي منذ وقتٍ مبكّر، إذ تم النظر إلى هذه النصوص “الحداثية” على أنها مشبوهة وهدّامة.
فهل كانت هذه النصوص حقاً، مناوئة للالتزام بالمعنى الضيق الذي فُهم به؟ وهل أفضى هذا “الأدب الملتزم” إلى أية نتائج خلاقة في أدبنا العربي؟ سوف نفحص هذا المفهوم ونعاين الطريقة التي تم فيها استخدامه، إذ على مثل هذا العمل سيتوقف وإلى حدٍ بعيد كل تصور لنا عن إمكانية نهوض ثقافتنا العربية المعاصرة بواجبها الحقيقي حيال الثقافة أولاً، وحيال مجتمعها ثانياً.
لقد تكرّس مفهوم الالتزام و “الأدب الملتزم” في ثقافتنا العربية المعاصرة تحت التأثير المباشر لصعود تيار “الواقعية الاشتراكية”، هذا التيار الأدبي الذي انتصر جزئياً وعلى نطاقٍ واسع مع ذلك، في عالم منقسم إلى معسكرين، بحيث جرى تقبّل الواقعية الاشتراكية بوصفها التعبير الأدبي عن المعسكر الاشتراكي السابق، وفي الآن ذاته، جرى تصوير كل تيار آخر، خارج هذه الواقعية، على أنه التعبير الأدبي عن المعسكر الرأسمالي. وهكذا فقد فهم الأدب الطليعي على أنه مجرد نتاج رأسمالي لا أكثر، وبالتالي فهو مرفوض سلفاً، بينما كان “غوركي” و”شولوخوف” و”بريشت” وسواهم مقبولاً من دون تحفّظ على السوية الفنية.
لا شك أن أدب هؤلاء، ألهم الأدب العربي الكثير من النماذج والأفكار والشخصيات الأدبية والفنية، ويصعب في الواقع، نكران قيمة وأهمية الأعمال الروائية والقصصية والأشعار والمسرحيات التي استلهمت الكثير من واقعية “غوركي” و”شولوخوف”.
ولكن يصعب مع هذا الجزم بأهمية إنجازاتها على الصعيد التقني، إذ ظلّت هذه الأعمال متّسمة على الدوام بكونها خالية من أية وعود فنية. وباختصار، كانت أهميتها تنحصر في جانب واحد: هوالتبشير بأفكار سياسية وعقائدية.
على هذا النحو، اتخذ مفهوم “الأدب الملتزم” الذي صاغه الناقض المصرى الدكتور محمد مندور ، مفهوماً مماثلاً وقريب الشبه بمفهوم “الامتثال” الذي يتحدّث عنه “هيرمان هيسه”.
اليوم نكتشف ثقافتنا العربية المعاصرة، أن ما ظنناه نوعاً من النضال الأدبي والفكري، متضمناً في مفهوم “الأدب الملتزم” لم يكن في واقع الحال، سوى أنموذج مكبّر من ذلك، “الامتثال” لسلطة أخرى غير سلطة النص، فهذا الأدب لم يُسهم عملياً إلا في التمهيد لرواج سياسات وأفكار عقائدية بعيدة كل البعد عن اشكالات الواقع العربي، والسؤال المطروح الآن: هل على الكاتب العربي أن يتخلّى عن “الامتثال” ويخرج إلى المواجهة مسلحاً بسلطة نصّه الجديد .
يُجيب الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن هذا السؤال بصراحة يندر مثيلها: “كان يصعب علينا في نشاطنا الوطني العام، أن نضع الفروق الواضحة بين الثقافي والسياسي، لأن زخم المشروع كان يجرفنا إلى درجة نعتبر فيها الأدب ترفاً وإلى حد نقمع معه مفهوم التخصص”.
بهذا المعنى، يُشير محمود درويش إلى نمط من الالتباس يكمن اليوم في “امتثال” النص الأدبي لسلطة الخطاب السياسي.
إن “امتثال” النص الأدبي لسلطة المؤسسة أو الخطاب السياسي او العقائدى لا تعني سوى أن هذا النص لم يعد ممتلكاً من الناحية الوظيفية “لسلطته” التي يتوهمها الكاتب، بل أضحى هو نفسه ملكاً لسلطة أخرى: سلطة الخطاب السياسي.
بكلامٍ آخر، فإن النص الأدبي إذ يتماهى داخل المضمون السياسى او العقائدي ، يغدو مجرد أداة لنمط من العمل الدعائي، أي – في نهاية المطاف – مجرد ممثل لهذا الخطاب، ينوب عنه في أداء وظائف وأغراض محددة. وبدأ يفقد هذا النص أهم مزاياه على الإطلاق: البراءة. وميزة الاستقلالية في كل نص هي الشخصية المستقلة التي تعلي من الفارق بينه وبين أي نصٍ آخر، سياسي أو عقائدي ، وتجعله متفرداً بالفعل.
إننا لا نجد هذه الاستقلالية في نصٍ سياسي أو عقائدى، لأن النص مصمم لأداء وظائف محددة، بينما نجد مثل هذه الاستقلالية في نصٍ قصصي إنساني أو في قصيدة أو عرض مسرحي، وبأمعان النظر في طائفة من الأعمال الأدبية التي وضعت نفسها في خدمة خطاب سياسي أو عقائدي، وعلى نحوٍ مباشر،نرى كيف أنّ تبدلاً حاسماً قد طرأ على طبيعة الوظائف وطرائق عملها، فبينما ينشد النص الأدبي ان يكون هدفا بذاته ، في الحالة التي يكون فيها متمتعاً بسلطته الخاصة به، نراه في الحالة الثانية، وقد أصبح وسيلة تؤدى خدمات لسلطة أخرى تدفع به نحو شكلٍ من العمل لا يعدو أن يكون ثانوياً، نعني به التبشير بمقاصد وأهداف الأيدولوجيا السياسية أو العقائدية.
هذه الإشكالية لا تنحصر، حقاً في إطار العلاقة بين “الثقافي” و”السياسي” وحسب بل تتعداها إلى إشكالية أخرى لا تزال تلازم ثقافتنا العربية المعاصرة، وهي بإيجاز شديد، إشكالية تصورنا لمفهوم الإلتزام في الأدب والفن.
إن هذا المفهوم الذي صاغه النقاد الماركسيون العرب منذ خمسينات القرن المنصرم، وجعلوا منه شرطاً حاسماً ومعياراً ثابتاً يُحدّد قيمة كل نص أدبي، أفضى في النهاية إلى نمط من الخلط بين وظيفة “السياسة” ووظيفة الإبداع. بل أن هذا الخلط تسبب فعلاً في نشوء “واقع ثقافى” واسع النطاق تربى فيه جيلٌ أثر جيل من القراء العرب، على قيم فنية وأدبية صارمة، بحيث بات من الصعب حقاً تقبّل كل محاولة جديدة أو طليعية لاختراق هذا الجدار أو تبديل شروطه، ونشأ من ذلك نمط من القراءة المشروطة للنص. ولكن إذا كان مفهوم الالتزام في الأدب والفن قد تسبّب بشيوع قيم فنية وأدبية في الكتابة والقراءة على حدٍ سواء، تقوم فيما تقوم على أساس أن النص الإبداعي يجب أن يكون في خدمة الهدف الأيدولوجي، أو الوظيفة المذهبية والعقائدية، فإن محاولة الكتاب العرب لاختراق هذا الحاجز اصطدمت أيضاً بمشكلات من نوعٍ لم يكن مألوفاً من قبل. إذ فهمت “الطليعية” على أنها حداثة مع أنهما تتضمنان معنيين مختلفين.
لاشك أن ثقافتنا العربية المعاصرة، استعارت من الثقافة الأوروبية في مطلع القرن الماضي مفهومها الخاص بها (الطليعية). بيد أنَّ هذه الاستعارة جاءت متأخرة كثيراً، فبينما كان مفهوم “الطليعة” يخبو ويتراجع ويُخلي المكان لمفهوم الحداثة كانت ثقافتنا العربية تلتقط بداية الخيط لانتاج ما بدا لها أنه (أدب طليعي).
في الواقع نشأ مفهوم “الطليعة” في أوروبا (فرنسا) منذ العام 1848، ولكن الاستعارة لم تجر إلا في ستينات القرن المنصرم. لقد كانت هناك مسافة زمنية تمتد إلى أكثر من مائة عام تقريباً. والحال ذاته ينطبق جزئياً على فكرة الحداثة. لقد لاحظ الناقد الفرنسي (انطوان كامبانيون) أن لفظة “الطليعة” كانت في الأساس تعبيراً عسكرياً استخدمته الجيوش والفيالق إبان الحرب. ولكن هذه اللفظة أصبحت ذات مضمون أدبي ثم جمالي. ثم جرى الانتقال الهام في تاريخ هذه اللفظة بعد ثورة 1848م عندما دخلت القاموس الفني، وظهور المدارس الفنية الجديدة في الرسم.
لقد كان فن الطليعة في البداية – كما يرى كامبانيون – فناً في خدمة التقدم الاجتماعي، ولكنّه غدا من الناحية الجمالية فناً متقدماً على عصره.
لقد اتخذت هذه “الطليعة” مضموناً “ملتزماً” في البداية عند جماعة “سان سيمون” الاشتراكية الطوباوية، وهذا ما تجسّد في أشعار “سان سيمون” نفسه، الذي كان يدعو من أجل هذا التقدّم الاجتماعي إلى وحدة رجل العلم ورجل الصناعة، وإلى جعل الفن في خدمتهما. عنى ذلك وبصورة مباشرة، أنّ الفنّ عند الاشتراكيين الطوباويين قد أصبح وسيلة دعائية وآلة للعمل، وهذا ما كرّسه انتصار الواقعية الاشتراكية في روسيا بعد عام 1917م، حيث تكرّس هذا المفهوم نهائياً بصيغته التي تلقّاها أدبنا العربي؛ ولذا فإن شيوع عبارات مثل: الأدب الملتزم، والفن في خدمة الحياة… الخ. قد صادفت هوى في قلوب القراء والكتاب على حدٍ سواء.
يُميّز “كامبانيون” بين نمطين من الطليعية: طليعة سياسية وأخرى جمالية، وبدقة أكثر، طليعة الفنانين والكتاب والأدباء الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الثورة السياسية، وطليعة الفنانين والكتاب القابلين لمشروع “ثورة جمالية” وبكلامٍ آخر: طليعة تُريد استخدام الفن من أجل إعادة إنشاء العالم وتخيّله سياسياً، وأخرى تُريد أن تجعل من الفن مجالاً للتغيير والثورة، بحيث أن العالم نفسه سوف يتبع في النهاية هذه الثورة وذلك التغيير.
إنَّ المعادلة الآنفة بين عمل “الثقافي” و”السياسي” لا تزال فاعلة في أدبنا العربي المعاصر.
يقول بولدير أنَّه كان يكره الاستعارات الطنانة من قبيل “الأدب المناضل” و”الصحافة المناضلة” و”شعراء المعركة”، ويرى فيها مجرد استعارات نضالية فارغة، ثم يُضيف: إنَّ هذه العادات تُشير إلى عقول خلقت للانتقام أي للامتثال للأعراف، ويُعلّق “كامبانيون” قائلاً: الفن الطليعي لم يكن نهائياً في الطليعة، ومع ذلك فقد راهن الفنانون الطليعيون على القوة الثورية للفن في إحداث التغيير، بدلاً من أن يضعوا أنفسهم في خدمة السياسيين!!
اليوم نجد ثقافتنا العربية المعاصرة نفسها والعراقية بشكلٍ خاص وهي تمرّ في مسارٍ حرج أمام السؤال القديم: هل يُمكن لها أن تنهض بوظائفها فعلياً من دون التخلّص أولاً وقبل كل شيء من عقلية الامتثال لسلطة الأيدولوجيا السياسية أو العقائدية على حدٍ سواء.