في الوقت الذي واجه فيه الدولار الأميركي سلسلة من الخسائر ليصل في
نهاية العام الماضي إلى أدنى مستوى في عامين ونصف العام مقابل سلة
العمات، إلا أنه واصل نزيفه في أول جلسات عام 2021 ، ما يشير إلى عام
صعب على الورقة الأميركية الخضراء.
وأمس، أظهرت بيانات اقتصادية، ارتفاع النشاط الصناعي في الولايات
المتحدة لأعلى مستوى في ست سنوات خال الشهر الماضي، كما ارتفع
الإنفاق على البناء في الولايات المتحدة بأقل من تقديرات المحللين خال
ديسمبر )كانون الأول( الماضي. ومع تثبيت معدلات الفائدة الأميركية عند
أدنى مستوياتها، والعجز الهائل في الباد، والاعتقاد أن انتعاش التجارة
العالمية، تراجع الدولار بنحو سبعة في المئة خال عام 2020 .
وفي تعاملاته الأخيرة، ارتفع الدولار أمام اليورو بنحو 0.5 في المئة إلى
1.2273 دولار، بينما استقر مقابل الين الياباني عند 103.14 ين. في حين
ارتفع أمام الجنيه الإسترليني نحو 0.6 في المئة إلى 1.3587 دولار، لكنها
تراجعت بنسبة مماثلة أمام الفرنك السويسري لتصل إلى 0.8797 دولار.
وخال الفترة ذاتها، تراجع مؤشر الدولار الرئيس الذي يقيس أداء العملة
أمام ست عمات رئيسة بنحو 0.2 في المئة إلى مستوى 89.74 نقطة.
ارتفاع قياسي لعملات الأسواق الناشئة
في المقابل، ارتفعت عمات الأسواق الناشئة لمستوى قياسي في أول يوم
تداول لعام 2021 ، إذ تجاهل المستثمرون الانتشار السريع لفيروس كورونا.
وعا مؤشر «أم أس سي أي » لعمات الأسواق الناشئة 0.7 في المئة تقريباً
إلى 1731.69 ، متجاوزاً الرقم القياسي السابق الذي سجله في مارس )آذار(
2018 ، قبل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي أعاقت
الرغبة في المخاطرة.
وتلقت عمات الأسواق الناشئة الدعم مع تراجع مؤشر الدولار أمام العمات
الرئيسة لأدنى مستوى منذ ما يقارب السنوات الثاث قبل أن يستعيد
بعض مكاسبه مع انخفاض الأسهم الأميركية.
وتتحسن معنويات المستثمرين مع طرح لقاحات فيروس كورونا، وآمال
التعافي الاقتصادي في 2021 ، وهذا يدفع المستثمرين لتحقيق عوائد أعلى
لأصول الأسواق الناشئة ذات المخاطر العالية مع تراجع الدولار الأميركي،
عملة الماذ الآمن. وكان البيزو التشيلي والروبية الإندونيسية من بين
أكبر الرابحين لعمات الدول الناشئة.
وتشير الدراسة التي أعدها أليكس أنتز، المحلل السابق في البنك الاحتياطي
الفيدرالي في نيويورك، إلى أنه بعد ما يقارب 50 عاماً على إنهاء الولايات
المتحدة لنظام «بريتون وودز »، لا يزال الدولار هو العملة المهيمنة في
العالم. ففي وقتنا الحالي، يتم استخدام الدولار في نحو 85 في المئة من
جميع معامات الصرف الأجنبي.
كما أن ما يقرب من ثلثي الاحتياطات كلها التي تحتفظ بها البنوك
المركزية هي بالدولار. ويشير تعريف العمات الاحتياطية العالمية إلى أنها
تلك العمات التي تهيمن على سلة العمات الأخرى التي تشكل احتياطات
البنوك المركزية من العمات الأجنبية، وتستخدم على نطاق واسع خارج
بلدانها الأصلية في المعامات المادية، وكذلك من قبل الأسواق المالية
الدولية في العقود والتداولات والأدوات المالية. كما يربط عدد كبير من
الدول أسعار صرف عملاتها بتلك العمات الاحتياطية العالمية.
ومع احتفاظ الدولار بمكانته كعملة احتياطية على المستوى العالمي، هناك
خمسة أسباب قد تعيد الزخم إلى الدولار، يتمثل السبب الأول في أنه يعزز
الموقف المالي للولايات المتحدة الأميركية، حيث تسعى البنوك المركزية
في دول العالم، خصوصاً تلك الموجودة في الدول النامية، إلى الاحتفاظ
بأصول مقومة بالدولار يمكن بيعها بسهولة من أجل شراء عملاتها، ودعم
اقتصاداتها في أوقات الأزمات. ونتيجة لذلك، فإن معظم احتياطات العمات
الأجنبية التي تحتفظ بها البنوك المركزية غير الأميركية هي بالدولار.
وتخلق هذه المشتريات الضخمة طلباً هائاً على سندات الخزانة الأميركية،
ما يرفع من أسعارها، ويضع ضغطاً على أسعار الفائدة الأميركية. وفي
الوقت ذاته، تستفيد الولايات المتحدة من عائدات السندات غير المحدودة
بفضل الاستخدام الأجنبي المكثف للدولار في معامات العمات التقليدية.
لذلك، فإنه في حال طرح عملة أخرى محل الدولار فسيؤدي ذلك إلى
تقليل الطلب على الدين الأميركي الخاص والحكومي من خال تشجيع
المستثمرين على شراء الأصول المقومة بعملة أخرى، ما يؤدي إلى ارتفاع
مدفوعات الفائدة الأميركية على الديون، والإضرار بالوضع المالي الأميركي.
ويتمثل السبب الثاني في أن الدولار يعتبر حائط صد لحماية الاقتصاد
الأميركي، حيث يحمي تفوق الدولار الاقتصاد الأميركي من الصدمات
الناشئة في الخارج. فبغض النظر عن حالة الاقتصاد العالمي، ينظر إلى
الدولار على أنه استثمار جاذب. فعندما يكون الاقتصاد الأميركي قوياً،
يضخ المستثمرون الأموال في السوق الأميركية، ما يزيد من الطلب على
الدولار ويعزز وضع العملة.
وعندما يكون الاقتصاد العالمي ضعيفاً، أو كانت توقعاته غير مؤكدة،
يدفع المستثمرون الأموال أيضاً للسوق الأميركية، ما يؤدي بالمثل إلى
ارتفاع قيمة الدولار. فالوضع القوي للدولار يعزل المستهلكين في الولايات
المتحدة عن تقلبات الأسواق العالمية، ويحمي مستوى معيشتهم. فمع
بداية جائحة فيروس كورونا ارتفع الدولار بنسبة ثمانية في المئة حتى
مع انهيار العمات الرئيسة الأخرى.
أما السبب الثالث فيتمثل في تحسين القدرة التنافسية للشركات الأميركية،
إذ يعمل تفوق الدولار على تحسين القدرة التنافسية للشركات الأميركية،
خصوصاً أن الشركات الأميركية لا تحتاج عادةً إلى التحوط ضد تحركات
أسعار الصرف. وينطبق هذا بشكل خاص على الشركات التي تصدر الديون
بالدولار، حيث لا تواجه المشاكل المتعلقة بعدم تطابق العملة.
ويتمثل السبب الرابع في أن الدولار بمثابة أداة لممارسة النفوذ العالمي،
حيث تعد هيمنة الورقة الخصراء أداة قوية لممارسة النفوذ العالمي،
وتحقيق أهداف السياسة الخارجية لواشنطن، خصوصاً في المؤسسات
المالية متعددة الأطراف التي تشرف على النظام المالي العالمي، حيث
مثلت هذه المؤسسات، ولا سيما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي،
قنوات لممارسة نفوذ الولايات المتحدة، من خال النظام القائم على
القواعد ضد المنافسين الأكثر استبداداً، وفي مقدمتها الصين. وبشكل
عام، تساعد الهيمنة الدولارية والأهمية المصاحبة للنظام المالي الأميركي
على ضمان بقاء الولايات المتحدة صوتاً مهيمناً في الشؤون العالمية.
أما السبب الخامس فيتمثل في إمكانية استخدام الدولار في شن الحروب
الاقتصادية، حيث تقترن هيمنته بقدرة الولايات المتحدة على شن الحروب
الاقتصادية. ففي الوقت الحالي، تدير وزارة الخزانة الأميركية أكثر من 30
نظاماً للعقوبات، والتي تستهدف مجموعة من الدول في مقدمتها كوريا
الشمالية وإيران وبوروندي. وتحجب برامج العقوبات الأصول الخاصة بالأفراد
والكيانات المحظورة، كما تخضع الشركات والبنوك التي تتعامل مع كيان
محظور لغرامات ضخمة، ما يحفزها على تجنب التعامل معها. وفي الوقت
نفسه، تمنع الكيانات الأجنبية التي تتعامل مع تلك المحظورة من الوصول
إلى النظام المالي الأميركي.
وخلصت دراسة محلل الاحتياطي الفيدرالي ونقلها مركز المستقبل للأبحاث
والدراسات، ومقره الإمارات، إلى أنه إذا فقد الدولار مكانته كعملة مهيمنة،
فإنه سيفقد جميع المزايا السابقة، لكن وضعه كعملة احتياطية عالمية قد
يجلب مخاطر كبيرة، حيث يخلق وضع العملة الاحتياطية العالمية توجهاً
نحو زيادة الديون، الخاصة والعامة، والتي قد تؤدي إلى فقاعات الائتمان.
فقد أدى الازدهار في الائتمان الذي غذى فقاعة العقارات في منتصف العقد
الأول من القرن ال 21 إلى أسوأ ركود منذ 80 عاماً.
ومع انتشار الجائحة الصحية في 2020 ، اضطر عديد من البنوك المركزية
إلى خفض قيمة عملاتها، وهو ما جعل سداد الديون الحالية المقومة
بالدولار أكثر صعوبة. ومن ثم، فإنه من المتوقع أن تواجه أكثر من إحدى
عشرة دولة أزمات ديون في غضون السنوات الخمس المقبلة.