اشارات حول فيلم دو كفيل “ Do Gville / ميسون خليل

اشارات حول فيلم دو كفيل “ Do Gville / ميسون خليل

ميسون خليل

فيلم  Do Gville

تأليف وسيناريو و اخراج لارس فون ترير

ما أن يبدأ العرض حتى يأخذنا الراوي بصوته المشوق الى مكان ناء افتراضي.. مدينةصغيرة معزولة محاطة بجبال وعرة قاسية لا يمكن اجتيازها يسكنها مجموعة من الناسيغلف حياتهم السكون. لوحة ساكنة  رسمت ونسيتوقد تم اختزال الصورة السينمائيةالغنية بالتفاصيل باستعارات تجريدية ذات دلالات رمزية فحسب. مما يذكرنا بمسرحبرخت. بيوت بلا جدران ولا ابواب ليس هنالك ما يدلل عليها سوى قطع اثاث بسيطة واشجار رسمت بالطباشير يتعامل الممثل معها باسلوب المسرح و فرضيت الروايةالسينمائية وحسب رؤيا ( لارس فون ترير ) مؤطرة بغرائبيته الفلسفية.

هذه المدينة المعزولة تكاد ان تكون خالية من الجدل تقتحمها غرايس فتاة جميلة هاربة منعصابة كانت تلاحقها بعد ان رفضت منطق هيمنة القوة كمبدأ يتحكم بحياة الضعفاءويحدد مصائرهم فالتجأت لتلك المدينة لتختبيء فيها فشكلت بذلك الفعل اول اختراقليوميات سكانها المتحفظين النائين بانفسهم عن المشاكلفقراء محبطون لا عمل لديهمللغرباء الا اننا نرى توم اديسون الكاتب الشاب الذي نصب نفسه مصلحا و واعظا وداعيا للاصلاح الاخلاقي .. يمد يد العون لغرايس.. يساعدها في اقناع سكان مدينتهلايوائها ( الاعمى , المحبط , الغبي , الفتاة المعوقة وحتى الاطفال وغيرهم ) و بجهد شاقتتمكن غرايس من فتح نافذة صغيرة في جدار الرفض الذي واجهها به اهل المدينةليتقبلوا فكرة بقائها و التستر عليها الا انهم اعتادوا تدريجيا على استغلال خدماتها  لصالحهم حسب مفهوم الهدية مقابل السكوت وعدم ابلاغ السلطات عن مكانها بل كانوايشعرون بأنهم اصحاب فضل عليها بمجرد قبولهم بهذا العرض و ان كان مدفوع الثمن وهي الفتاة المطاردة التي لا يكف رجال البوليس عن البحث عنها .

من ذلك الضعف يبدا المخرج امتحان سكان المدينة المعدمين الضعفاء بعد أن وجدوا من هواكثر ضعفا منهم. فيرمون باوزارهم و اثقالهم عليها كل حسب حاجته و امراضه وشهواتهلتلبي غرايس بلا خيار كل احتياجاتهم المادية و النفسية و حتى الغرائزية لتصل الى حدالوحشية.

هكذا يتصاعد الحدث الدرامي ويعري المخرج النفوس فتتعرض غرايس لشتى انواعالاضطهاد و العقوبات. فكلما كانت تسمح لهم باحتلال انسانيتها كانوا يطالبونهابالمزيد حتى نرى ان المهندس الغبي ( بيلل ) الذي ساعدته غرايس في لعبة ( الداما ) قدصنع لها طوقا مرتبطا بسلسلسة تسحب قطعة حديد  لمنعها من الهرب عقابا لها علىذنب لم ترتكبه.

في نهاية المطاف تتمكن تلك  العصابة من  استرجاع غرايس بعد ان تآمر عليها اهلالمدينة ليتضح لنا أن والدها هو الذي كان يقود عملية المطاردة و بعد جدل يدور بينهمايصفها الاب بالمتعجرفة كونها تتمسك بافكارها وترفض مفهوم القوة  مبررة اساءات اهلالمدينة و استغلالهم لها ألا انها لا تصمد امام ضغط القوة كمبدأ. و بعد احتدام النقاشتدرك غرايس أن العالم لا يتحقق فيه الامان الا بهيمنة تلك القوة ليفاجئنا المخرج بخياراتلا تخطر ببال.

تقتنع غرايس بمنطق والدها لتكون جزء من مشروعه حينها تعطي الاوامر بحرق المدينةوقتل كل من فيها.  وحسب ارادة مفهوم القوة  نرى اهل المدينة يستسلمون دون مقاومةمجرد كائنات ضعيفة , محبطة لم يجرأ اي منهم على استنهاض شجاعته و لا حتىالهرب انما يستسلمون لارادة القوة التي شكلت فكر نيتشه  و قبله شوبنهاور. هنا تتضحمأساة الانسان في علاقاته مع الاخر في احداث هذا الفيلم الذي ابدع المخرج فيتفاصيله.

من الواضح ان لارس فون ترير قد استعان بصوت الرواية ان يكون مدخل الفيلم ورفيقدربه. ففي فصوله التسع كان هنالك  راوي يصف الاحداث كأنه يأخذ بأيدينا الى الفعلالدرامي باسلوب شيق مضيفا الى الفيلم سحر الكلمة و قوة تأثيرها. كذلك عنصرالتغريب و الاشارة و الرموز التي تندس في كل التفاصيل و تختبيء فيها مما يشكل فيذهن المشاهد اضاءات لتنير بعضا من تلك العتمة  ابتداء من اسم الفتاة غرايس والتيتعني النعمة كعطاء غيبي. الهدية التي وردت على لسان اكثر شخصيات الفيلم و التيتؤخذ دون مقابل تباعا. كما حملت بعض الشخصيات اسماء ذات دلالات اخرى. الكلبالذي كان مجرد رسم على الاسفلت , حررته غرايس ليعود الى بريته و فطرتهشجرةالدردار التي لا ظلال لهاالتماثيل التي هشمت بعد ان نفضت غرايس الغبار عنهاالتفاح و ما يجري  اثناء  موسم قطافه له دلالاته.

كل هذه الرموز استثمرها المخرج مؤكدا ان هذه الاحداث تقع في مدينة امريكية كما جاءفي الاستهلال و عززت الاغنية التي انتهى بها الفيلم ذلك مع توثيق صوري لفقراء امريكافي ثلاثينيات القرن الماضي ( فترة الكساد الاقتصادي ). وقد اعترف المخرج لارس فونترير امام الصحافة  بعدائيته للنظام الامريكي الرأسمالي ولاكثر من مرة مؤكدا ميولهالاشتراكية الا ان ما يتركه الفيلم في ذهنية المشاهد ابعد من ذلك و اكثر عمقا لو تجاهلنامكان الحدث الذي حدده المخرج المؤلف. و رغم ان بعض الطروحات والاراء تتقاطع معافكاره المستفزة ورؤياه المتشائمة لكنها لا تلغي انه مبدع ومبتكر

ارى ان هنالك ملاحظة تستحق التنويه ان المخرج لارس فون ترير بعد عرض هذا الفيلم  قد اعلن في مؤتمر صحفي تخليه عن حركة الدوكما السينمائية فهو الذي تمرد علىالسينما الكلاسيكية فكيف لا يتمرد على قيود هو وضعها بنفسه مستعينا بممثلين نجوممستخدما ما يشبه خشبة المسرح كموقع تصويري بعيدا عن بيئة الحدث  كذلك صوتالراوي والانارة مع اتباع اسلوب اللقطات القصيرة في التصوير وتضمين الفيلم  مشهداعنيفا استخدم فيه السلاح.

من المهم هنا الاشارة الى دور الممثل  فقد اجاد الجميع ادوارهم باحترافية عالية  و قدتألقت نيكول كدمان التي قامت بدور غرايس  بادائها الناعم و حضورها الشفاف.

(Visited 32 times, 1 visits today)

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *