عبد الحميد الصائح
منطق الثورات والاحتجاجات لايسمح للعقل بالتدخل كثيرا، لان الذي يحركها هو فعل باعث ملح وخليط متوهج من العاطفة والتحدي الذي يصل مرحلة من عدم حساب النتائج ، فالنتائج التي تتشكل منها رؤية الثائر، تختلف عن النتائج التي تتشكل لدى المراقب الذي يقرا من خلال مسافة ما بينه وبين ذلك التوهج . وعليه لايمكنك الا ان تختار بين كونك منتميا لخطابها أو ناكرا لها جملة وتفصيلاً سواء بالصمت أو التلصص عن بعد والتحايل لحصد النتائج اذا ما تحققت .
وعليه يمكن أن نشخّص بصورة جلية ما تمخض من احتجاجات تشرين التي تدخل عامها الثالث دون حصاد حقيقي سوى الاحتفاء بالظاهرة التي عمّدت بالدم والتحدي مقابل عجز الأجهزة الرسمية عن الحل . وهو حل عسير بين طرفين لايمكن أن يتنازلا لبعضهما ، لا الطبقة السياسية تشعر بخطورة استمرار المتظاهرين رغم اليد الضاربة التي تواجههم فتتراجع أو تنسحب او تتغير من ذاتها ، ولا المتظاهرون الذين لن يقتنعوا بان خروجهم المتكرر ليس سوى تفريغ غضب ومزيد من الدم البريء ومواصلة لوضع حياة الناشطين وأصحاب الرأي المعارض في خطر التصفية دون ملاحقة او حساب .
بين هذين المستحيلين المتلاصقين المتباعدين تمضي الدولة العراقية الى مستقبل مجهول فعلا . حيث تعترف بمايطلبه المتظاهرون وتعجز عن تلبيته في حده الأدنى مستغلة سلمية التظاهرات وأعمار المتظاهرين اليافعة وهي سلمية غير منتجه
فالتظاهرات السلمية في العالم هي استعراض رأي ضاغط ، وفرض رأي جماهيري على الحاكم لعله يُصلح انحرافاً في وظيفته التي هي تكليف شعبي بصورة أو باخرى .
وكما كتبتُ يوما لاتنجح التظاهرات السلمية في العالم اذا كان الحاكمُ مستبداً، ولذلك فان تظاهرات تشرين صمت صوتها أو علا ، عاد شبابها الى بيوتهم أو خرجوا الى الشوارع عراة الاشاجع ، كشفت أن حكام العراق اليوم لايتعاطون مع المظاهرات بوصفها استعراضا للرأي وضغطا، وان الديمقراطية بلا ديمقراطيين، وهذا أهم نتائج مظاهرات تشرين. أي أنّ القطيعة بين الناس وحكامهم أصبحت بائنة. الأمر المهم الآخر أنّ عودة الناس الى بيوتها دون تحقيق أهدافها المباشرة ستشكّل خطرا على الطبقة الحاكمة كلها ، الطبقة التي سبقت الناس وسبقت المتظاهرين انفسهم بالاعتراف بالفشل وقالت على ألسِنة رموزها إنها لم تستطع بناء دولة وانها فشلت في أن تلبي مطالب الناس .. لنرى للمرة الاولى في بلاد عبر التاريخ جميع مواطنيها دون استثناء في داخلها وخارجها حكاما ومحكومين اخيارا واشرارا نزهاء وفاسدين مفكرين وبسطاء اثرياء وفقراء كلهم على سكّة تشرين يقرون بان وضع البلد صعب ويحتاج تغييراً . الفرق بين هؤلاء هو في الاسباب فقط. الحاكمون والمستفيدون يقولون هناك اسباب خارجية وتحديات وارهاب ومخلفات نظام سابق، ونحن نعم فشلنا و(لكن) لن نغادر مواقعنا تحت اي ظرف! الشعب يقول نتفق معكم ان وضع البلد منهار ونتفق معكم انكم فشلتم كما اعترفتم ولكن عليكم ان ترحلوا وتتغيروا سلمياً عبر التواضع والانسحاب وترك شباب البلاد يبنون بلادهم ويستعيدون وطنهم الذي يواجه تهديدا من اكثر من جهة.
هذه هي القصة باختصار ولذلك فان مظاهرات تشرين قالت ماتريد قوله واجتمع فيها القوم جميعا من خرج ومن دعم ومن صلى من اجلهم ومن استشهد في مقدمتهم ، حركة جماهيرية اثبتت التطورات انها غير مدعومة من اية جهة ولذلك استضعفوها بهذا الشكل. ورغم أن ليس من المؤكد انها ستحقق اهدافها حتى عبر صناديق الانتخابات التي اختطفت من الآن، ولن يحدث التغيير الجذري الذي حلم به الشهداء.
لكنها تحولت اليوم الى فكرة تأسيسية ، فكرة ينمّيها كلُ جهد وكل مظهر ، الفقر والغنى والأمية وغياب التنمية وشكل البلاد المتراجع على مخنلف الصعد ، وربما هذا هو سر ان تكون بالضرورة داعماً لتظاهرات تشرين التي حتى معارضوها لم ينكروا صلاحية شعاراتها لكنهم بحكم الوظيفة والانتماء يغمزون الى جهات مريبة خلفها وهو اتهام جاهز في كل زمان وتظاهرات .