المعلوماتية التوحيدية

محمد عبد الجبار الشبوط

لطالما كان الخلق الإلهي موضوعًا لاهتمام الفلاسفة والمتكلمين والعلماء، بين من رآه فعلًا لحظةً واحدة، وبين من تصوره عملية ممتدة عبر الزمن. لكن في ظل التقدم الهائل في علوم المعلومات والبيولوجيا والفيزياء، تبرز اليوم فرضية جديدة: أن الخلق هو تعبير عن علم مطلق، وأن الكون برمّته ما هو إلا منظومة معلوماتية شديدة الدقة والغائية، تمثل أثرًا مباشرًا من آثار الله العالم، لا فقط القادر.

في ضوء هذا الفهم، لم تعد “المعلومة” مجرد أداة معرفية يستخدمها الإنسان لفهم الكون، بل أصبحت عنصرًا بنيويًا في هذا الكون ذاته. المادة، الطاقة، الزمان، وحتى الحياة، يمكن فهمها على أنها تجليات لمعلومة أسبق، منظمة، حاملة لقصد، ومشفّرة ضمن قوانين دقيقة.

إذا كان الله “عالم الغيب والشهادة”، فإن فعله الخلقي يمكن أن يُقرأ كإفصاح تدريجي عن هذا العلم. كل ذرة، كل جين، كل قانون فيزيائي، كل نمط تطوري، ليس فقط نتيجة قوة إلهية، بل تعبير عن معلومة سابقة في علم الله.

بهذا المعنى، يصبح الخلق عملية “إبلاغ معلوماتي” من الخالق إلى الوجود. والقرآن يؤيد هذا التصور ضمنًا حين يربط بين الخلق والعلم في مواضع متعددة، مثل قوله تعالى: “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” (الملك: 14).

النظرية التقليدية للتطور تفسر تنوع الكائنات عبر آليات مثل الطفرات والانتقاء الطبيعي. لكن هذه الآليات نفسها تعمل ضمن بيئة معلوماتية مدهشة التنظيم، من الشيفرة الوراثية (DNA) إلى أنماط السلوك البيولوجي.

في الفهم المعلوماتي التوحيدي، لا يُنفى التطور، بل يُفهم كآلية ضمن مشروع أعظم: مشروع الكشف عن الإمكانات الكامنة في “كلمة الخلق” الأولى. فالانتقاء الطبيعي ليس عشوائية صماء، بل سنة من سنن الله في تحقيق التوازن بين التنوع والبقاء.

المعلومة بوصفها واسطة الخلق

حين نفكر في “كن فيكون”، قد نتخيله أمرًا لحظيًا، لكنه قد يكون أمرًا معلوماتيًا فائق السرعة، حيث يُفعّل أمر الله من خلال وسائط كونية دقيقة، تمامًا كما يُفعّل أمر في جهاز حاسوب معقد عبر كود مبرمج سلفًا.

هذا لا يُنقص من القدرة الإلهية، بل يرفعها إلى مستوى أرقى: القدرة التي تخلق بكلمة، والمعلومة هي تلك الكلمة، مضمونة النتائج، محتوية الغاية، متكاملة البنية.

إن المعلوماتية التوحيدية تدفعنا إلى إعادة صياغة علاقتنا بالله والكون والعلم. ففي هذا النموذج، يصبح العلم طريقًا إلى الله، لا بديلاً عنه؛ وتغدو دراسة الخلق بمثابة قراءة في “نص معلوماتي إلهي”، لا مجرد تحليل للظواهر.

هذه الرؤية توفق بين التوحيد والعلم، بين الإيمان والاكتشاف، وتُخرجنا من ثنائية الصراع بين الدين والعلم، لتضعنا على عتبة تكامل معرفي جديد.


مشاركة المقال :