محمد عبد الجبار الشبوط
الاقتصاد، كما درج في النظرية الكلاسيكية، يُفهم على أنه علم إدارة الموارد النادرة لإشباع الحاجاتالمتزايدة، ويُنظّم في ضوء قواعد السوق، الربح، والمنافسة. لكن هذا الفهم، رغم كفاءته التقنية، غالبًا مايُغفل البعد الأخلاقي للثروة، ويختزل الإنسان إلى مستهلك أو عامل، في نظام تقوده المصالح لا القيم.
في مواجهة هذا النمط، يطرح مشروع الدولة الحضارية الحديثة تصورًا بديلًا: الاقتصاد الحضاري، وهونموذج لا يُقصي قوانين السوق، لكنه يُخضعها لمنظومة قيمية عليا، أساسها العدالة، الكفاية، الرحمة،والتكافل. الاقتصاد الحضاري لا يسأل فقط “كم ننتج؟” بل أيضًا “لمن ننتج؟”، و”كيف نوزّع؟”، و”ما أثرهذا الإنتاج على الإنسان والمجتمع والطبيعة؟”.
الهدف الجوهري للاقتصاد الحضاري ليس تراكم الثروة بحد ذاته، بل تحقيق الكفاية والكرامة لجميعأفراد المجتمع، من دون تهميش أو احتكار أو تبعية. إنه اقتصاد يربط بين العمل المنتج وحق الفرد فيالثروة، وفي الوقت ذاته يقرّ بأن هناك حاجات إنسانية لا تُقاس بالإنتاج، بل تُستحق بالانتماء الإنسانيذاته، كالطعام، والسكن، والصحة، والتعليم.
في هذا السياق، يقوم توزيع الثروة في الاقتصاد الحضاري على ركيزتين متكاملتين:
العمل: وهو أساس الملكية الفردية، حيث يُكافأ الإنسان على جهده وإبداعه.
الحاجة: وهي أساس التكافل الاجتماعي، حيث يُضمن الحد الأدنى من المعيشة الكريمة لكل فرد، ولو لميكن قادرًا على العمل، من خلال أنظمة عادلة للضمان الاجتماعي، والضرائب التصاعدية، والوقف،والزكاة، والتبرع.
أما الدولة، فليست خصمًا في الاقتصاد، ولا مجرد منظم محايد، بل هي فاعل حضاري يوفّر البنيةالتحتية، ويضع التشريعات، ويكافح الاحتكار، ويمنع التفاوت المفرط، ويراقب التوازن بين التنميةوالعدالة.
ويُعيد الاقتصاد الحضاري تعريف الثروة لا كمورد للتملك فقط، بل كأمانة جماعية، ومجال للاستخلاف،وأداة لبناء مجتمع متوازن. فالثروة ليست حقًا مطلقًا، بل مسؤولية اجتماعية، تُستثمر لتنمية الإنسان لالتعظيم أرباح فئة ضيقة.
وفي المجتمعات التعددية، يصبح هذا النموذج ضرورة، لأنه يُبعد الاقتصاد عن منطق الغنيمة، ويؤسسلمنظومة توزيع تقوم على الإنصاف لا التحاصص، وعلى الحق لا الولاء.
إن الاقتصاد الحضاري ليس مجرد نظرية، بل رؤية عملية وأخلاقية تنبع من قيم القرآن وتجارب الإنسانية،وتُعيد وصل ما انقطع بين الثروة والرحمة، بين الإنتاج والعدالة، بين السوق والضمير. وبدونه، تبقىالدولة أسيرة اللامساواة، وتبقى الثروة مصدر فتنة لا نعمة.
ولهذا، فإن بناء الدولة الحضارية الحديثة لا يكتمل من دون اقتصاد حضاري يُنظّم الثروة وفق منطقالكفاية والتكافل، ويجعل من التنمية طريقًا نحو الإنسان، لا العكس.
