القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي
منذ نعومة أظفاري و أنا أعيش في محيط من النار، لا سلطة لي فيأختياري، ولدت قضاء وقدر هكذااتخيلني كلما واجهت العوم في ذلك المحيط الناعم الملتهب من حرارة الشمس، لم احظى بطفولة مثلماسمعت ورأيت بعد ذلك بزمن تسارع وجعلني افترش واحات مياه باردة ملاذ أمن، شغفت صعوبةالحياة التي فرضت عليّ الى أن كابدت لهيبها، خاصة بعد أن ورثت مهنة والدي العراب كمهرب بين حدوددول متجاورة، ذاع صيتي بين حكومات تلك الدول، لم يتبينوا أو يتعرفواعليّ غير انهم أطلقوا عليّ اسمسندباد محيط النار.. ذلك المحيط الرملي المليء بخبايا السراب و افواه الموت الجائعة التي تتلقف كلمن يسترخي او يستريح لبضع سويعات، الرمال التي امتصت سياط الشمس الملتهبة ثم احتفظت بهالتردها الى كل من يسير متبخترا مدعيا انه دليل صحراء محيط النار، كنت قد توصلت الى قرار التخلي عنركوبه، غير أنه في مرة جائني شخص أراد مني ان انقل له علبة لايتجاوز حملها اكثر من يد واحدة، مصمماان لا أحد يقوم بذلك غيري و ألزمني أن اسلمها الى رجل اودعني اسمه وعنوانه وصورته، إلا بيده ولا لأحدغيره، كنت قبلها بأيام أداول نفسي كما ذكرت الخروج بسفينتي التي طالما سارت في محيط من الرمالالسائبة والمتحركة،كان يرافقي اغلب الاحيان ملك الموت الذي لا ينفك ينتظر كسر صواري عزيمتي، غيران صوت ما جعلني استفيق من ضربة الشمس التي كانت تهدنني، فتحديتها فعزمت الخروج حيث العالمالآخر، بعيدا عن عالم محيط النار هذا، طلبت ثمنا كونها آخر مهمة لي تعجيزي لكن ذلك الرجل وافق علىعجالة ودون تردد، لذا كنت امام الامر الواقع كما اني حسبتها جيدا بأن المبلغ سيعينني على ما نويت فيحياتي القادمة.. يعلم اغلب اهل الكار اني لا اسير سوى في الليل درءاً لدوريات الشرطة الحدودية وكذلك درءا عن حرارة الشمس ولهيب محيط نار، رمال الصحراء الملتهبة، كالعادة المكان الذي اقصدة لاينال الوقت فيه سوى أربعة ليال و صباح يوم خامس اكون قد انهيت مهمتي، كما العادة ايضا لا يرافقنيفي رحلتي سوى بندقيتي وزوادة صغيرة وقربة ماء، توكلت على الله في نفس ليلة الاتفاق لكن الكار الذياعمل فيه لا يخلوا من رفاق سوء او خيانة، عالمنا لا صاحب فيه ولا صديق، مجرد مصالح عنوانها الرئيسالموت او القتل،لم اسأل عن ماهية ماكنت انقله تلك عادة ورثتها عن والدي كي احظى بالامان بالاضافةالى ابقاء جرعة الشجاعة التي اتمتع فيها، لأن معرفتي بما انقله تضعف من عزيمتي وشجاعتي كونالحرص يزداد في حمايتها الى جانب فقدي التركيز على المحيط الذي ابحر فيه، مرت الليلة الأولى بسلامودون منغصات، و الليلة الثانية ايضا، توجست خيفة، غير ان اليوم الثالث ما أن لبس آخر النهار عبائتهحتى تواردت الضباع من عدة اتجاهات كأن هناك من سخرها للنيل مني، عوائهاسقيم طبعها لئيم، الضبعحيوان انتهازي مستغل اي لحظة هجوع اوسكون، اوقدت النار كي احمي نفسي ثم جلست ممسكاببندقيتي متجولا بعيون خبرت انفاس تحرك الرمال، في تلك الاثناء حفرت لي في الرمال حفرة ثم حشوتنفسي بداخلها بعد ان غطيت جسمي بالرمال حتى رأسي، بعدها ان وضعت عليه ما يقيني من الرمال غيرأني عملت مخرجا صغيرا للتنفس، بداية كنت متفقا مع رمال المحيط التي بدت باردة لكن بعد ان مر اكثرمن ساعة وافتني حرارة الرمال حتى ابتلت ثيابي وشعرت بفوران دمي في شرايينها… لم اطقها رغم عشرتها لي، دفعت بنفسي الى الخارج، كمن يلقى طود نجاة من الغرق، كانت الضباع تتجول حولي و لاتقترب خوفا من النار، غير ان احدهم بدا انه زعيمهم هجم علي منتهزا ارتباكي فنال من ساقي بعد اناجرى فيه انيابه، اطلقت رصاصة لا على التعيين، هرب يجر خيبته وهو يلعنني لكنه نظر إلي بنظرة تشفيوفوز، ثم عوى بقوة كأنه يبلغ جماعته بنصره ويقول لي انه قد نال مني.. سارعت بأخذ قدر كف يدي منالرمال التي تحت النار فوضعتها على الجرح، أحسبها كفيلة على ايقاف النزف، ربطتها و ركنت الى نفسيممسكا ببندقيتي تحسبا لهجوم غادر سافر جماعي، بينما أنا كذلك سمعت صوت حركة كنت متأكدا انهليس صوت حيوان، توجست الخيانة لربما هناك من تبعني ليسلبني الحياة وينال مما بين يدي، اخرجتالعلبة راودتني نفسي ان اكشف سرها لكن عتاب ضمير منعني فالخيانة رداء لم يرتديه والدي ولا اسلافي،زممت النار بالرمال فانطفأت ثم سارعت في طريقي،الضباع تقارعني بين كر وفر كنت خفيفا وأنا اجريرغم جرحي، أماذلك الصوت فقد بات بعيدا… ساعات لا اعلم وقتها كنت قد وهنت اوصالي بسبب جرحساقي، شارف الفجر أن يزيح غطاء الظلمة،طرحت بنفسي بين طل صغير وهضبة شبه بعيدة، بدا الهواءبارد، قبلان ارى الجرح اوقدت النار ومن خلال ضيائها كان ذلك الضبع ومعهاثنان يتطلعان إلي، اخرجتجعبة الماء وبللت قطعة قماش ثم عمدت الى مسح جرح ساقى، يبدو ان رائحة الدم اثارت الضباع فاخذتعوي وهي منطلقة تدور حولي، فعمدت الى بندقيتي فصوبتها الى ذلك الضبع الذي وقف منتصبامتحديا لي، اطلقت الرصاصة الاولى فأنفلت منها اما الثانية المباغتة في السرعة اظنها صرعت رفيقا له،في اثناء ذلك كادت رصاصة تصيبني وقد أزت مسرعة بالقرب مني، التفت وإذا برجل يحاول قتلي، رميتبنفسي حيث الطلة الصغيرة ورحت اتدحرج كأنه اصابني، كنت انظر في اتجاة مكان اطلاق الرصاصة.. وهلة رأيت فيها شخص يبادر للنهوض بحذر كنت قد رصدته والضباع تعوي لموت رفيقها، ما ان قام حتىاطلقت عليه النار فارديته صريعا كما ذلك الضبع.. صراخه جعل الضباع تسارع اليه لإ فتراسه، اما انا فانتهزتها فرصة كي احظى بركوب رمال المحيط الباردة قبل بزوغ الشمس، في المكان المحدد سلمتالرجل العلبة، بعدها قمت بالتداوي مؤملا نفسي بعمر جديد احياه في بيئة يابسة ليس فيها محيط من الرمال المتحركة، هذا ما قصصته على زملاء لحفيدي كانوا يرتادون زيارته، بعد عودتهم من المدرسة،كان متفاخرا وهو يستمع الى قصةالضباع كبطولة لجده.
