محمد الكلابي
ليست كل ديكتاتورية نظاماً سياسياً، وليست كل أداة قمع سلطة رسمية. فثمة قمع ينشأ من قلب الجمهور نفسه، ويستمد شرعيته من “رأي الأغلبية”، لا من مؤسسات الدولة. هذا القمع لا يُعلَن غالباً بوصفه استبداداً، بل يُقدَّم كاختيار شعبي، وموقف جمعي، وتعبير عن الهوية العامة. وهنا تنقلب الديمقراطية من أداة حماية للمجتمع، إلى أداة تستخدمها الجماهير لفرض نموذج واحد، ومحو كل ما يخرج عنه.
الخلل يبدأ من التصوّر المبسّط لفكرة الديمقراطية نفسها. حين تُختزل في مبدأ “حكم الأغلبية”، وتُجرَّد من بعدها الثقافي والتعددي، فإنها تفتح المجال لتحوّل الكثرة إلى سلطة ضاغطة. هذه السلطة لا تقمع عبر أدوات الدولة، بل تمارس ضغطها من خلال الإعلام، والمجتمع، والتشريعات، والمنصات، وحتى السلوك اليومي. الخطير في هذا النمط من الاستبداد أنه لا يُعرَف كاستبداد، بل يُحتفى به بوصفه صوت الناس.
ما يُقصي الآخر هنا ليس فرداً صاحب قرار، بل شعور جماعي باليقين. وما يحكم سلوك الجماهير ليس القانون، بل قناعة راسخة بأن من يخالفهم يهدد تماسك المجتمع أو نقاءه. عند هذه النقطة، يُحوَّل التنوع إلى مشكلة، والاختلاف إلى تهديد، والتمثيل إلى استحواذ. وتبدأ عملية فرز غير معلَنة: من ينتمي ومن لا؟ من يحق له أن يُسمَع؟ ومن يجب أن يُحاصَر ويُلغى؟
هذا الميل الجمعي إلى الإقصاء لا يظل نظرياً. يتحوّل إلى سلوك فعلي حين تُمنح الجماهير غطاءً أخلاقياً أو دينياً أو وطنياً لتبريره. في لحظات الفوضى أو التحوّل السياسي، تظهر هذه الآلية بوضوح صارخ. المثال السوري يقدّم حالة ملموسة: حين دخلت جماعات الجولاني المسلحة إلى بعض مناطق الساحل السوري خلال فترات الصراع، لم يكن الأمر مجرد فعل عسكري. بل جسّد لحظة انتقام تمّت بتواطؤ شعبي ضمني، باعتبار أن الطائفة المستهدفة – الأقلية العلوية – لا تنتمي إلى “الهوية الوطنية الأصيلة”، وأن استهدافها ليس جريمة بل “تصحيحاً” لتاريخ مختلّ.
هذا الحدث لا يمكن فهمه خارج منطق الجماهير المنتقمة. لم تكن المجزرة انعكاساً لأمر عمليات مركزي، بل تعبيراً عن ثقافة ترى في الكثرة مبرراً لكل شيء، وترى في المختلف سبباً للخلل يجب استئصاله. وهكذا، تنكشف آليات القمع الجماعي: ليست معتمدة على سلطة، بل على شعور متضخم بالتفوّق العددي والأخلاقي.
حين تُمارس الأغلبية هذا القمع، فهي لا تستخدم أدوات استبدادية تقليدية، بل تُطوّع أدوات ديمقراطية لصالحها. القوانين تُسنّ بناءً على مزاج الجماهير، لا على مبادئ الحماية. الخطابات تُعاد هندستها لتُقصي المختلف وتمنحه صفة “الانحراف”، أو “العدو الداخلي”. وسائل التواصل تتحوّل إلى ساحة نبذ علني، والمؤسسات تتحوّل إلى أذرع للامتثال. كل هذا باسم المشاركة، والانتماء، والصالح العام.
لا يتعلق الأمر هنا بسوء استخدام عابر، بل بخلل في البنية نفسها. إذا لم تُضبط سلطة الأغلبية، تتحوّل الديمقراطية إلى غطاء تقني للاستبداد المجتمعي. لا أحد يعتذر عن القمع، لأنه يظهر في ثياب “حماية القيم”، أو “رفض الشذوذ”، أو “صوت الشارع”. وهذا ما يجعل الأمر أكثر خطورة من الطغيان السياسي: الاستبداد الرسمي يمكن مقاومته، أما القمع الشعبي، فغالباً ما يُحتضَن بوصفه فضيلة.
وحين يسود هذا النمط من التفكير، تصبح الحرية استثناءً مشروطاً بالامتثال، ويُختزل مفهوم “المواطنة” في التوافق مع المزاج الجمعي. من لا يرضى، يُتَّهَم. ومن لا يتشابه، يُستبعَد. وهكذا، تفقد الديمقراطية قدرتها على احتضان التعدّد، وتتحوّل إلى آلية إنتاج مستمرّ للامتثال القسري.
المجتمعات التي تسير في هذا المسار لا تتراجع فجأة، بل تنزلق تدريجياً نحو بنية من الرقابة الجماعية. لا حاجة فيها لشرطي، لأن كل مواطن يتحوّل إلى رقيب. ولا حاجة لمحكمة، لأن الجمهور سبق أن أصدر حكمه. وحين تختفي الفروق بين القوانين ومزاج الأغلبية، يصبح المجال العام مجالاً مغلقاً، مشروطاً، يُدار لا باسم الحرية، بل باسم الإجماع.
ما ينتظرنا، إذا استمر هذا المسار، ليس عودة الديكتاتور التقليدي، بل صعود أنظمة شعبوية تستمد شرعيتها من الأكثرية الغاضبة. لن يُنتخب فيها المستبد بوصفه طاغية، بل بوصفه من يُجسّد الإرادة الشعبية. لن يُكتب القمع في القوانين، بل سيتسرّب من الشاشات، واللافتات، والهتافات، والعناوين. الديمقراطية ستبقى، لكن وظيفتها ستنقلب: لا لحماية المختلف، بل لتشريع إقصائه.
عندها لن يُقاس العدل بما يكفله النظام، بل بما تسمح به الجماهير. وستُستبدل معايير الحق بمعايير القبول الاجتماعي. هذا هو الشكل الأكثر استقراراً وخطورة من الاستبداد: حين يتحوّل الناس إلى مصدر السلطة ومصدر الخوف في آن معاً.
