كتب د/ خالد البغدادى
( أقدم لكم هذا الفنان الشاب بتجاربه الساذجة الأولى .. أقدم هذا المعرض الى أصحاب الموهبة الفنيةوهواة الفنون ، وهم فى بداية الطريق يسعون الى من يرشدهم ويعلمهم. وهو معرض نادر أن يقدمهفنان فى نهاية تجربته الإبداعية لكنه كان بمثابة انطلاقة حقيقية ، فبعده دخلت الى كلية الفنون الجميلة.. وإنطلقت فى طريق المتعة والعذاب الفني..!!)
هذا ما كتبه فى مقدمة كتالوج معرضه الذى أقامه بقصر التذوق بالإسكندرية ، والذي كان أحد الصدماتوالمفاجآت التى إعتاد عليها المستنير دادا / داوستاشى ليقدمها من آن لآخر لعله يوقظ حواسنا التيإعتادت على البلادة .. وينقذ وعينا الذي توافق مع الإعتيادى والمألوف.
ولد فى الإسكندرية عام 1942 ، وعاش وترعرع فيها طوال حياته ، حتى أصبح حالة فنية وانسانية خاصة،فهو ليس مجرد فنان تشكيلي .. إنه حاله فنية خاصة ، فهو شاعر / وقصاص / وكاتب سيناريو/ ودرسومارس الإخراج التليفزيوني. كما أن له العديد من الكتب والمؤلفات ، سواء عن مشواره الفني أو عنفنانين آخرين . كما قدم رصد تاريخى لأماكن كثيرة ذات خصوصية فنية مثل أتيليه الإسكندرية على سبيلالمثال.
وقد مثل داوستاشى حالة نوعية في تاريخ الفن المصرى الحديث والمعاصر حيث كان من اوائل الفنانينالذين تفاعلوا مع اتجاهات وفنون ما بعد الحداثة Post modernism مبكرا جدا منذ أواخر الخمسيناتواوائل الستينات من القرن الماضي وتاريخيا قد يكون هو اول فنان مصرى رائد في هذا السياق – معالفنان رمزى مصطفى – حيث تحرر من لوحة الحامل التقليدية وبدأ في انتاج اعمال فنية مجسمة وثلاثيةالأبعاد
كما بدأ في أعمال (فن التجميع) مبكرا جدا بالموازاة مع أعمال روبرت روشنبرج وجاسبر جونز في ذلكالوقت ، وهو ما ساهم في تحريك المياه الراكدة وحث الفنانين على ضرورة التفكير بشكل مختلفومغاير، وقد وافته المنية يوم 13 مايو الماضى عن عمر قارب 83 عاما وهو الخبر الذى فاجأ الوسطالثقافى كله سواء في مصر او في العالم العربي
أهم التجارب الفنية
كما أن له العديد من التجارب الفنية التي تعد ليست مجرد تجربة تشكيلية ولكنها في تقديرى بحثبصرى فنى وفكرى ايضا حيث تدفعك أعماله الى ضرورة التأمل والتفكير ، منذ دراسته فى كلية الفنونالجميلة وما قبلها – وما بعدها – وتجربة سفرة الى ليبيا وعودته منها ..الخ .
درس النحت على يد أستاذه محمود موسى. وقد قدم نفسه فى بداية حياته بلقب الفنان الشاب عصمتعبدالحليم . وهو اسمه الذي بدأ به مشواره الفني قبل أن يعتمد بعد ذلك إسم ( داوستاشى ) اسم عائلتهالتى هربت من جزيرة كريت هربا من الاضطهاد ، لما له من خصوصية ووقع على الأذن ، وبالتأكيد كنوعمن التميز ولفت الإنتباه
وقد منحته دراسة النحت فرصة أعمق لدراسة الفن بأبعاده المختلفة ، وقد أنتج العديد من الأعمالالنحتية فى مراحل عمره المختلفة ، ومن اهم اعماله مجموعة سفينة نوح وعمل ( سفينة القربان)،ومجموعة الشكل الهرمى ، وعمل ( هرم الزمان الراهن ) ولأن العالم متغير بطبعه ، ولا يعرف الثبات .. كما أن رغبة الإنسان فى التجريب والاكتشاف لا يمكن الوقوف أمامها ، مما دفعه لخوض الكثير منالمغامرات الفنية، ولعل هذا المعنى هو السبب الذى دفعه الى أن يفاجأ الجميع ذات يوم بتقمصشخصية ( المستنير دادا ) الذي دعاه الى الخروج فى أحد معارضه منذ عام 1981 ليثور على كل قوالبالفن الجامدة – التي كانت ستدفعه يوما الى إعتزال الفن – ليدخل في اشتباك حقيقي مع كل مفرداتالكون المحيط .
ورغم طبيعته الهادئة إلا أنه منذ لحظة خروج المستنير دادا وأصبح فنه مهاجما بطبيعته ، حيث يختبردائما كل حدود الفن – الشكل/ الخامة/ الإطار/ المضمون .. الخ – ويقفز فوقها الى ما هو أبعد وأعمق . وإن بدا أحيانا أبسط .. وأبسط ، فى محاولة مستحيلة منه لوضع (المطلق) داخل إطار ، وربما يفسر لناهذا رغبته الدائمة فى تكسير الإطار والخروج عنه الى أشكال فنية مغايره .. مثل البرفان الخشبيوالمعلقة والشكل الهرمي .. وغيرها
وأعماله دائما محملة بدلالات رمزية وسيرياليه متأثرا بالثقافة الشعبية .. ثقافة العامة والبسطاء ،خصوصا فى المرحلة التي صور فيها إحالات سحرية وطقسية لشكل ومفهوم الكف ( والخمسه وخميسه) وما تعنيه من دلالة فى المثيولوجيا الشعبية المصرية . ومعارضه عن (خيلات فنجان القهوة) وحيوانالجمل ورحلته الى الصين ، وفى المرحلة الأخيرة كان يرسم كل يوم وجه من وجوه الشهداء في حرب غزة، في محاولة لتوثيق الحالة والمرحلة وتسجيل هذه المآساه حتى ولو تشكيليا..!!
آخر لوحات الحامل
وفى أحد تجاربه الفريدة التي قدمها فى دار الأوبرا المصرية عرض مجموعته الذي رسمها على حاملالرسم بعد أن هجره منذ معرضه الأول ، بسبب رغبته الدائمة فى التجريب حيث أنتج معظم أعمالهالفنية عبر كل تاريخه على منضدة الرسم أو على الأرض أو على أي مسطح يمكن استعماله ، لكنه هذهالمرة عاد الى استعمال حامل الرسم كالمريد الصوفي – على حد وصف الناقد عزالدين نجيب – ليقدملنا مجموعة خاصة من اللوحات التى المحملة بدلالات رمزية
حيث تلعب المرأة دور البطولة فى معظم هذه اللوحات بما تمثله من معاني عاطفية وثقافية واجتماعيةخصوصا فى مجموعة لوحات المرأة والسمكة التى تحيلنا الى عالم السحر والأحلام وما يمثله رمزالسمكة من تجاذبات في اللاوعي الجمعي للثقافة المصرية ، كما نجد العديد من الكائنات الأخرى فىالعديد من اللوحات ، فلا تكاد تخلو لوحة من علاقة تجمع ما بين المرأة وأحد الكائنات مثل القط والكلبوالثعبان والحمل .. الخ
إهتمامات أخرى
وفى هذا السياق نحاول أن نضع أيضا الفكرة التي كررها أكثر من مرة فى السنوات الأخيرة ( معرض فىكتاب ) لكنه كتاب خالي وخاوي من كل شىء إلا بعض الأوراق السوداء أحيانا .. والحمراء أحيانا أخرى – والبيضاء أحيانا ثالثة – فهل هذا دلالة على التشاؤم الذي وصل إليه .. أم أنها طرق مختلفة فى التفكير .. لعله يحثنا على إعادة التفكير فيما نعانيه من مأزق ..
رغم أن الفهم أحيانا قد يفسد المتعة .. على حد تعبير الراحل العظيم حسين بيكار .
