بقلم: ناجي الغزي/ كاتب سياسي
يُعدّ الحنين إلى الماضي ظاهرة إنسانية عامة، تتكرر عبر الأزمنة والأمكنة، لكن حين يتحول هذا الحنينإلى حالة جمعية تستدعي عهداً ديكتاتورياً اتَّسم بالقمع، والحروب، والتجويع، فالأمر لا يعود مجردمشاعر، بل يصبح علامة استراتيجية لفشل البنية السياسية والاجتماعية والرمزية في إنتاج أفق بديل أكثرإنسانية وعدالة. والعراق مثال صارخ على هذا المأزق، إذ لا يزال قطاع واسع من المجتمع يعيد إنتاجحنينه إلى الأنظمة السابقة، بما فيها نظام صدام حسين القمعي، رغم كل الكوارث التي خلفها.
*من الملكية إلى الدكتاتورية – ذاكرة شعب تائه*
شهد العراق منذ انقلاب 1958 سلسلة من التحولات السياسية التي لم تُبنَ على مشروع وطني متكامل،بل على ردود أفعال ومشاريع سلطوية. فكلما سقط نظام استبدادي، وُلدت لدى الناس “*قدميةشعورية*” تنظر إليه كعصر ذهبي، لا حباً فيه بل رفضاً للواقع الراهن الأكثر سوءاً.
لقد تحوّلت ذاكرتنا الجمعية إلى دائرة مغلقة، تُعيد تمجيد كل نظام بعد سقوطه، حتى لو كان في حينهموضوعاً للرفض، ما يكشف عمق الخلل في ديناميات الوعي السياسي، وغياب الأفق النقدي لدىقطاعات واسعة من المجتمع.
حين تولّى صدام حسين السلطة، تغيرت طبيعة السلطة نفسها. لم تعد دولة تقاد بجماعة أو حزب فقط،بل بشخص واحد يملك كل شيء: السلاح والقرار والحياة والموت. ومع كل كارثة؛ من الحرب مع إيران،إلى غزو الكويت، إلى الحصار الدولي، كان المجتمع يُقاد إلى هاويته باسم “الوطن“، وباسم “الكرامة“،بينما تُسحق الكرامة الحقيقية في الداخل، وتُباد الأجيال إما في الجبهات أو في السجون.
دخل العراق في زمن صدام مرحلة متقدمة من “*التدجين السياسي*”، حيث تم قولبة المجتمع وفقسردية موحدة تُمجّد القائد وتُخرس المعارضة، وتُنتج ثقافة الخوف والعنف والعسكرة. لكن المفارقة كانت أن الانهيار المدوي لهذا النظام في 2003 لم يُنتج مستقبلاً جديداً، بل كشف عن فراغ عميق فيالبدائل السياسية. هذا الفراغ تجسد في فشل النخبة التي تولت الحكم بعد 2003، بالإضافة إلى غيابالرؤى الواضحة، مما جعل كثيرين يشعرون بأن الاستبداد، على قسوته كان على الأقل “يوفّر الأمن“، وهوشعور زائف.
ووهمٌ خطير يغفل ثمن القمع والحرية المفقودة.
*مأزق الوعي لا مأساة السلطة فقط*
الحنين إلى عهد صدام المجرم لا يعكس إعجاباً حقيقياً بشخصه أو سياساته القمعية، بل يُعبّر عن خيبةأمل شعبية في البدائل الديمقراطية، وعن فشل النخب في بناء دولة المؤسسات، كما يُظهر مدى هشاشةالوعي الجمعي حين تُهيمِن عليه النزعات الطائفية، والخطابات الدينية الشعبوية، والولاءات الضيقة.
هذا الحنين في جوهره هو شكل من أشكال *اللاوعي السياسي*، يتم إنتاجه عبر القهر الاجتماعيوالتجهيل الثقافي، وهو ما يعيدنا إلى مقولة “*القدمية*” للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي: حينما يعجزالناس عن فهم حاضرهم أو التأثير فيه، فإنهم يهربون إلى الماضي كملاذ نفسي.
والحنين للدكتاتورية في العراق هو أحد تجليات الوعي الجمعي الجريح، الذي لم يُمنَح وقتًا للشفاء، ولافرصة للنهضة. لكنه في الوقت نفسه حنينٌ خطير، لأنه يعبّر عن قبول ضمني باستمرار القمع، واستبدالالفوضى بالحزم، ولو كان هذا الحزم قاتلًا.
إن المجتمعات التي تفشل في بناء أدوات الذاكرة والنقد، والتي لا تتملك حريتها بوعي ومسؤولية، ستظلتدور في فلك الزعامات الفردية. والزعماء الدكتاتوريون لا يهبطون من السماء، بل يولدون من رحمشعوب مهيّأة للاستسلام لهم، ومن ذاكرة مجروحة تسجن نفسها في وهم “*الماضي الأفضل*”.
السؤال الأهم اليوم ليس: هل كان الماضي أفضل؟ بل: لماذا لم نستطع أن نجعل الحاضر أفضل منه؟وما الذي يمنعنا من بناء مستقبل لا نندم عليه غداً؟
هذا سؤال يجب أن يُطرح لا على السياسيين فقط!! بل على النخبة الثقافية، وعلى كل فرد يرى في الطاعةملجأً، وفي الخوف فضيلة. فالدكتاتورية لا تعود فقط بمدافع الدبابات، بل تعود حين نشتاق لها، ونبرروجودها، ونفشل في صناعة بديلها.
*استراتيجية الخروج من مأزق الحنين*
1. إعادة بناء الوعي النقدي: عبر إصلاح النظام التعليمي، ودعم وسائل الإعلام المستقلة، وبناء ثقافةالحوار لا القطيعة.
2. تعزيز ثقافة الذاكرة: تأسيس متاحف وأفلام وثائقية وشهادات حية، تُخلّد حقب الاستبداد بوصفهافترات يجب ألا تتكرر. وربط الذاكرة بالمستقبل، بدل البكاء على الماضي، حتى تصبح أداة تحصين، لا أداةعودة.
3. تفكيك الطائفية السياسية: عبر إنتاج مشروع وطني جامع يتجاوز التقسيمات الهوياتية.
4. تجريم تمجيد الاستبداد: قانونياً وثقافياً، مع فتح ملفات الحقبة البعثية للوعي العام.
5. تبني مفاهيم العدالة الانتقالية: لخلق مصالحة تاريخية تعترف بالضحايا وتُحاسب الجناة.
6. الاستثمار في الأجيال القادمة: بتوفير فرص حقيقية للمشاركة، والانخراط في مشروع بناء الدولة.
الحنين إلى الدكتاتورية، ربما هو فشل في الحاضر لا تمجيد للماضي، وللخروج منه لا يكفي أن نلعنالاستبداد، بل يجب أن نُنجز بديله: دولة العدالة، الوعي، والمشاركة. وحدها هذه الدولة تجعل الماضيماضياً، وتجعل الناس يُفكرون في الغد بدل أن يهربوا إلى الأمس.
