تفكيك العرش

محمد الكلابي 

السلطة، في جوهرها، ليست موقعًا بل فكرة. وحين تتحوّل الفكرة إلى أداة، تصبح السلطة أخطر مما تبدو عليه. في ذكرى استشهاد الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، لا نقف أمام تاريخ رجل حَكم ثم استُشهد، بل أمام عقل مبكر مارس أعمق أشكال النقد الفلسفي للسلطة، لا من خارجها، بل من داخلها. لم يكن عليّ معارضًا يكتب من الهامش، بل حاكمًا يفكّك من الداخل فكرة الحكم، ويعيد تشكيلها على معيار لا علاقة له بالغلبة ولا الشرعية الشكلية، بل بمركز الحق.

كان عليّ (ع) واعيًا بأن السلطة لا تُصنع فقط من السيف أو العدد، بل من الرموز، من الخطاب، من التبرير، من الإجماع الزائف. في لحظة ما بعد عثمان، حين التفّ الناس حوله، لم يبتهج ولم يسارع، بل قال: “دعوني والتمسوا غيري”. هذه ليست جملة متواضع، بل موقف فلسفي جذري: إنه يشكك في آليات انتقال السلطة، في شرعية الرغبة الشعبية حين لا تؤسَّس على وعي، في طبيعة الحكم ذاته كعقد أخلاقي قبل أن يكون تفويضًا سياسيًا.

قبل نيتشه، كان عليّ يُدرك أن القيم قد تُصنع لحماية النفوذ لا لصون الحقيقة. فالحق لا يُؤخذ من قوته الظاهرية، بل من صدقه الداخلي. حين قال: “اتّباع الهوى يصد عن الحق”، لم يكن يتحدث عن رغبة فردية، بل عن بنية اجتماعية تنتج تبريرات للسلطة، وتُعيد تشكيل المفاهيم الأخلاقية وفقًا لمصالحها. وهنا تتقاطع رؤيته مع نيتشه الذي فضح كيف تتحول القيم إلى أدوات هيمنة، ومع فوكو الذي كشف أن السلطة لا تُمارس بالقمع فقط، بل تُمرّر عبر الثقافة، والدين، واللغة، والمعرفة. لكن الفرق أن هؤلاء كتبوا نظريًا، أما عليّ فعاش ذلك في جسده السياسي، وتحمّله بألم لا يقارَن.

في جوهر حكمه، مارس الإمام علي شكًا أخلاقيًا دائمًا تجاه كل ما يُبرَّر باسم المصلحة أو الحنكة. حين نصحه ابن عباس أن يكون كمعاوية في الدهاء، رد عليه: “والله ما معاوية بأدهى مني، لكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس”. هنا عليّ لا يعترض على الدهاء كوسيلة، بل يُجرّده من شرعيته الأخلاقية حين يُستخدم خارج مبدأ الحق. إنه يقدّم تعريفًا جديدًا للقوة: أنها لا تكتمل إلا إذا خضعت للأخلاق.

رفض عليّ منظومة الامتيازات الاجتماعية والسياسية التي تُبرِّر السلطة باسم النسب أو التاريخ أو التقاليد. حين قال: “إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله”, فكك شرعية الوراثة القبلية، وأسقط منطق الغلبة العددية. لم يكن الحكم عنده احتكارًا للسيادة، بل تكليف مشروط بالعدل والمعرفة. وفي هذا تفكيك مبكّر لما تُسمّى اليوم “الشرعية الرمزية”، وهي التي يُسائلها فوكو: من أين تستمد السلطة أحقّيتها؟ ومن يعطيها الحق في السيطرة؟ عليّ أجاب: لا أحد، إلا العدل، والعقل، والنية الصافية.

والأهم من كل ذلك، أن الإمام كان يُدرك أن الحكم، بمجرد أن يُطلب، يتحوّل إلى خطر. لهذا كان حاكمًا يعيش داخل السلطة بوصفها حالة طارئة، مؤقتة، قابلة للانزلاق، ومفتوحة على الفتنة. لم ينظر إلى المنصب كغاية بل كاختبار وجودي، وكأنه يقول: “من يطلب السلطة، لا يستحقها. ومن يخشاها، وحده يُؤتمن عليها”.

فإذا كان فوكو قد فكك بنية الهيمنة، وكان نيتشه قد شكك في نسب القيم، فإن الإمام عليّ فعل ذلك قبل أن تُخلق هذه الأطر النظرية. أقولها يقينًا: أنا لا أقارن، لأن عليّ أكبر من أن يُقارن. من يكتب عن السلطة شيء، ومن يحملها ويظل نزيهًا منها شيء آخر.

قُتل الإمام عليّ لأن الحقيقة، حين تُنطق من فوق العرش، تُصبح انقلابًا. قُتل لأنه لم يطلب مجدًا ولا جماهير، بل نظافةً أخلاقية لا يطيقها نظام مألوف. قُتل لأن العدل إذا سُكن في الحاكم، يفضح كل الزيف المستقر. وعليّ، الذي رحل مغدورًا، لم يُقتل من أجل السلطة، بل لأنه فككها. ولأن صوته ما زال حيًا، كلما نطقت السلطة باسم الله وسحقت الإنسان، ينهض من المحراب، وينظر إلينا، ويقول:

الحق لا يُؤخذ من أعلى المنابر، بل من أنقى الضمائر.


مشاركة المقال :


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *