د. تحسين الشيخلي
لا تسأل الطغاة لماذا طغوا.. بل اسأل العبيد لماذا ركعوا؟
الطّاغية معروفة صفته فهو الشخص الظّالمِ المتجبِّر، الذي يستخدم القوّة في تسيير ما يريد خارجًا عن مُقتضى الحقّ والعَدل.
لا يُولد الطغيان من فراغ، ولا ينفرد الطاغية بصناعة الاستبداد وحده، بل يحتاج إلى من ينفذ أوامره، ويبرر ظلمه، ويخضع له دون مقاومة. فالطاغية، مهما بلغت قسوته، لا يستطيع أن يحكم دون أدوات تُنفذ، وعيون تُراقب، وأيدٍ تقتل باسمه. ليس السؤال عن سبب طغيانه هو الأهم، بل لماذا وجد من يركع له ويخدم جبروته؟ كيف يتحول القانون، الذي وُجد لحماية الناس، إلى سلاح يشرعن البطش؟ وكيف يشارك من أقسموا على حماية الوطن في تحويله إلى سجن كبير؟.
في الدول التي تحكمها الأنظمة الشمولية، لا يكون القتل فعلًا عشوائيًا ولا انتهاك القانون مسألة فردية، بل يتحول إلى ممارسة ممنهجة، تبررها السلطة، ويؤديها من يفترض بهم حماية المجتمع. يتحول الضابط من رجل أمن أقسم على تطبيق القانون بعدالة إلى أداة بطش لا تتردد في تنفيذ أوامر القتل والاعتقال والتعذيب، تحت ذريعة الحفاظ على النظام. لم يكن القتل الذي مارسه ضباط الأمن في نظام صدام حسين مجرد تجاوزات، بل كان جزءًا من منظومة حكم جعلت من العنف وسيلة للبقاء، وحولت القانون إلى غطاء للمجازر. هؤلاء الذين أداروا السجون السرية، ونفذوا الإعدامات الجماعية، ودفنوا المعارضين في مقابر جماعية، لم يكونوا مجرمين هاربين من العدالة، بل كانوا رجال دولة يحملون أوسمة ورتبًا عسكرية، ويؤدون مهامهم تحت شعار (حماية الأمن). لكن كيف يتحول رجل الأمن إلى قاتل؟ وكيف يمكن لنظام قانوني أن يُستخدم لتبرير الإبادة؟ هذه الأسئلة ليست مجرد نظريات، بل حقائق شهدها التاريخ، ويكشف عنها سقوط القتلة الذين عاشوا لعقود خلف حماية السلطة، قبل أن يجدوا أنفسهم اليوم في قبضة العدالة.
السلطة والقانون وجهان للعملة ذاتها، إما أن يكون القانون أداة لحماية المجتمع وصيانة كرامة الإنسان، وإما أن يتحول إلى قناع زائف يبرر الجريمة ويشرعن البطش باسم الدولة. ليست الجريمة هنا مجرد أفعال فردية لضباط انحرفوا عن قسمهم، بل هي جزء من نظام شامل صنع هؤلاء وأعاد تشكيلهم حتى صاروا أدوات طيّعة لخدمة أهدافه. في ظل الأنظمة الشمولية، لا يكون الالتزام بالقانون مسألة أخلاقية أو مهنية، بل هو ولاء مطلق للسلطة، وحين تتحول السلطة إلى كيان مستبد، فإن القانون ذاته يصبح جزءًا من آلة القمع التي تبرر القتل والتعذيب والملاحقات.
تبدأ القصة دائمًا بالقَسَم الذي يؤديه الضابط عند تخرجه من كلية الشرطة والتحاقه بجهاز الشرطة او الأمن، قَسَم يتحدث عن خدمة الوطن وحماية المواطنين وتطبيق القانون بعدالة. لكن هذا القسَم، في ظل نظام شمولي، يتحول إلى طقوس شكلية تخفي تحتها واقعًا مختلفًا تمامًا، حيث يكون القانون أداة تطويع وتحكم، وحيث يصبح ولاء الضابط للحاكم وليس للوطن، وللسلطة وليس للقيم. يتحول الضابط شيئًا فشيئًا إلى ترس في آلة ضخمة، يشارك في القمع دون أن يجرؤ على التساؤل عن طبيعة أفعاله، لأن النظام قد صاغ بيئة تبرر الجرائم تحت عنوان (حماية الدولة) أو (حماية النظام من المؤامرات). وفي لحظة ما، يدرك الضابط أن الولاء الأعمى هو طريق النجاة الوحيد، وأن التمرد على الأوامر ليس خيارًا متاحًا، وإلا سيُسحق بنفس السلاح الذي استخدمه في سحق غيره.
إن الحكاية ليست عن خمسة ضباط فقط، بل عن منظومة كاملة زرعت في عقول رجالها فكرة أن كل من يعارض السلطة هو (عدو)، وأن الأعداء لا يُحاسبون بالقوانين، بل (يبادون) باسم القانون. هكذا تحولت أجهزة الأمن من أدوات لحماية المجتمع إلى مؤسسات تفرض سلطة الرعب، حيث تصبح حياة الإنسان بلا قيمة، وحيث يتساوى القتل مع تنفيذ الأوامر. هؤلاء الضباط الذين نفذوا الإعدامات الجماعية، وقادوا حملات القمع والتهجير، لم يكونوا مجرمين منفردين، بل كانوا منفذين لسياسة ممنهجة، استمدوا من النظام شرعية أفعالهم، وتلقوا الأوامر من قادة مثل فاضل البراك وسعدون شاكر وبرزان التكريتي وعلى رأسهم عرابهم صدام حسين ، صنعوا من القتل وسيلة لبقاء السلطة، ومن البطش ضمانًا لاستمرار النظام.
في ظل هذه الأنظمة، لا يكون القانون سوى وسيلة للإرهاب، حيث يُكتب بأيدي الطغاة، ويُفسر وفق مصالحهم، ويُطبق بأيدي جنودهم. يصبح القاضي أداة أخرى في آلة القمع، يسوّغ الأحكام ويفرض التبريرات القانونية للإعدامات الجماعية، ويبرر قرارات الإبادة الجماعية تحت شعار (حماية الدولة). لا يعود المواطن محميًا بالقانون، بل يصبح ضحية له، ويتحول الضباط إلى جزارين يحملون ختم الدولة، يقتلون باسم القانون، ويقمعون باسم حماية الأمن. إن التحولات التي مر بها هؤلاء الضباط لم تكن سريعة أو مفاجئة، بل هي عملية طويلة من الإعداد النفسي والإيديولوجي، حيث يتم إخضاع الأفراد داخل الأجهزة الأمنية لتدريبات نفسية تعزلهم عن الشعور الإنساني تجاه ضحاياهم، حيث يصبح الموت والإهانة أدوات روتينية في العمل الأمني.
لكن في النهاية، تأتي لحظة الانهيار. تسقط الأنظمة الشمولية، ويتغير شكل السلطة، ويجد هؤلاء أنفسهم مطاردين، مكشوفين أمام العدالة، يحملون أوزار تاريخ طويل من الدماء والانتهاكات. في تلك اللحظة، قد يتذرع البعض منهم بأنهم كانوا ينفذون الأوامر، لكن هذا التبرير لا يصمد أمام الحقيقة، فكل نظام شمولي يحتاج إلى من ينفذ، وإلى من يشارك، وإلى من يصدق الأكاذيب ويعيشها. هؤلاء الضباط لم يكونوا مجرد منفذين، بل كانوا أدوات (واعية)، تصرفت بأسم القانون لكنها حوّلته إلى غطاء لجرائم لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة الضحايا ولا من ضمير التاريخ.
السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكن لمجتمع أن يمنع تكرار هذه الظاهرة؟ كيف يمكن أن نضمن ألا يتحول القانون مجددًا إلى أداة قتل؟ الإجابة تكمن في بناء دولة تحترم المؤسسات، وتفصل بين السلطات، وتضمن أن الأجهزة الأمنية ليست قوة فوق القانون، بل هي خاضعة له، وأن كل فرد فيها مسؤول عن أفعاله، ولا يمكنه الاحتماء بذرائع الطاعة العمياء. إن العدالة ليست مجرد محاكمات بعد سقوط الأنظمة، بل هي منظومة يجب أن تُبنى على أسس لا تسمح بخلق جيل جديد من القتلة باسم الدولة.
هذه ليست مجرد قصة خمسة ضباط، بل هي قصة أنظمة حولت القانون إلى سلاح، وجعلت القتل وظيفة، ثم انتهت كما تنتهي كل الأنظمة القمعية، تحت ثقل دماء الضحايا وصوت التاريخ الذي لا ينسى.
Hey There. I found your blog using msn. This is a very well written article. I will make sure to bookmark it and come back to read more of your useful information. Thanks for the post. I will definitely comeback.