د. احمد الميالي
عاشت مدينة كركوك ذات التنوع القومي والاثني قبل ايام احداث امنية متوترة بعد احتجاجات مكوناتية عكست الواقع السياسي السلبي الذي يؤشر ضعف القانون وعلو الجانب السياسي والحزبي
وخلال زيارتي الاخيرة لكركوك تبتدأ معاناة السفر اليها عبر الطريق المتخسف والمتعرج الذي لم يكتمل منذ اكثر من تسع سنوات من بغداد الى كركوك، في ذلك الوقت حينما شرع بتبليط هذا الطريق كان المحافظ نجم الدين كريم يحظى بمقبولية وسمعة جيدة نتيجة الخدمات المقدمة من افتتاح سبعة مجسرات وتبيلط الشوارع وتشجير وانارة الى استحداث وحدات سكنية ارتبطت بسياسة التكريد وتحسين وضع الكهرباء وتوفير فرص عمل، كان الهدوء يعم المحافظة قبل دخول تنظيم داعش للموصل واطراف وقصبات كركوك الحويجة والرياض وغيرها..بعد مرور خمس سنوات ووصول المحافظ راكان الجبوري الذي لم يحظى بسمعة جيدة عند الاهالي وماسمعته عنه انه منشغل بقضايا “التمكين للعرب والمقربين منه” كما سلفه فعل ذلك مع فرق ان الجبوري لم يقدم الخدمات المطلوبة رغم وجود تطور نسبي في تخطيط وتبليط الشوارع والازقة، وفعلا ماسمعته كان حقيقة وقد يكون بفعل ضعف التخصيصات وعدم الاستقرار السياسي، لكن المواطن لايعي هذه الامور ،فمستوى الخدمات دون الحد المقبول وفي يتراجع.
كما شكل دخول العرب من اطراف المحافظة تحديا جديدا فيما يخص فرص العمل والسكن والخدمات، اما على المستوى الامني وبعد دخول القوات الاتحادية والحشد الشعبي بعد استفتاء اقليم كردستان شهدت كركوك استقرارا امنيا ملحوظا عما كان عليه الوضع بعد دخول داعش، مقارنة مع سيطرة قوات الاسايش في حينها اذ كان الاحتقان بين الاطراف في حالة تزايد، فخلال مرحلة سيطرة الاسايش على الملف الامني في كركوك كان هنالك ترويعا واضحا للعرب والتركمان بسبب ممارسات التكريد وتخويف العرب لاجبارهم مغادرة المدينة مع وجود سياسات تفضيلية لصالح الكرد على حساب التركمان والعرب لاتقبل الشك، فعلى سبيل المثال استحدث حزب الاتحاد الوطني الكردستاني عن طريق الاسايش احياء كاملة تعرف ب”بيوت الارقام” ووزعت بمبالغ رمزية على الكرد وربطت بخدمات متكاملة دون سند عقار وتباع وتشترى بشكل مباشر ، على سبيل المثال حي بنج علي اضافة الى دور شركة نفط الشمال “جوبليجة، وهنجيرة وباجوان” وحي دور الفيلق، في حين بعد سيطرة القوات الاتحادية، بدات الامور تختلف وتتحسن رغم ان الكرد متخوفين وغير مرحبين بهذه القوات وهم ينتظرون عودة البيشمرگة ومحافظ كردي جديد.
تجولت في بعض مناطق واحياء المحافظة وسألت عن الثقل النوعي للقوميات في المحافظة كان الاكراد هم الاكثر عددا ثم العرب فالتركمان، مع ان التركمان فاعلين بشكل اكبر ولهم وجودهم الفاعل وهم منظمين حتى في سياق العمل الاداري لأن وجودهم ليس طارئا كما هو الحال مع الكثير من الكرد والعرب ممن استقطبوا للمحافظة بفعل التدافع السياسي، كما زرت مناطق يكثر فيها الكرد مثل شوراوا ، و رحيم اوه “وهي اهدء وانظف واجمل مناطق شاهدتها في كركوك” و الشورجة وبنج علي وحي دور الفيلق، وزرت مناطق يكثر فيها العرب بكثرة مثل احياء النصر وحزيران والعروبة والممدودة، كما زرت حي الواسطي وتسعين ومنطقة قورية ويكثر فيها التركمان، كما زرت منطقة عرفة وهي منطقة كان يقطنها المسيحيين والشبك والكاكائية والان يكاد يتراجع وجودهم فيها بفعل الاوضاع .كما زرت منطقة الجمهورية وسوقها المكتظ وشارع الاطباء وشارع بغداد والقادسية الاولى والثانية وشارع القدس الجديد ودوميز والحرية . وجدت الهدوء يعم المدينة ذات القابلية المميزة للتعايش والتساكن .كما لاحظت اللافتات المكتوبة بلغة عربية وكردية، المدارس تدرس بلغات القوميات الثلاث ، الأنظمة والقوانين تسري بشكل فعال على الجميع، العلم العراقي وحده يعلو الدوائر والمؤسسات. لكن وأنا أنظر إلى طابور السيارات على محطات الوقود الذي يوزع بالبطاقة الوقودية اضافة المشتقات الاخرى وكأني في لحظات الالتقاء بماضٍ غير مألوف وجهاً لوجه، ابان ايام الحصار الاقتصادي، اضافة الى تدافع ديموغرافي وصراع على الاراضي والدور والاحياء وتصنيف السكان بمايعرف بالسكان الاصليين والمستوطنين مع موجة نزوح من الاطراف خاصة قضاء الحويجة باتجاه مركز المدينة ، مع ذلك وجدت شغف الناس وولعهم بالحياة وحماستهم في طلب الرزق والعمل والقبول بما هم عليه بشكل مذهل وواضح ولا علاقة له بأي اجندة سياسية او دينية او قومية، هذا ظاهرا ما عاينته.
كركوك تستحق الافضل مدينة النفط والتعايش والتعددية …الصراع على النفط والارض والسياسة هو المهدد الذي قد سينسف التعايش والتساكن والهدوء لهذه المحافظة ذات القوميات الثلاث والاديان الخمسة، وستكون هذه الفسيفساء قنبلة موقوتة في اي لحظة يحتدم الصراع السياسي فيها.
رحلتي الى كركوك د. احمد الميالي
(Visited 62 times, 1 visits today)