عبدالمنعم الاعسم
تبلى المقولات المتداولة، المحاطة بالتقديس، عبر التاريخ، مثلما تبلى جميع مناشف الوجه في الاستخدام، ثم سرعان ما تصبح من الماضي المؤرخ، بلا نفع او دلالة.، إلا في كونها كانت مريحة يوما ما. لكن علينا ان نحاذر التاريخ بما هو مكتوب، كما نصحنا مارك توين الكاتب الامريكي قبل ما يزيد على قرن من الزمان بأن لا نأخذ المقولات التاريخية على علاتها، وهو القائل “ان التاريخ قد لا يعيد نفسه، ولكنه يتشابه كثيراً” هذا التشابه لا يختلف عن تلك النصيحة، اما المفكر الاشتراكي الفرنسي “جاك اتالي” الذي عمل مستشارا لدى الرئيس الفرنسي الاسبق فرانسوا ميتران فقد وضع التاريخ كله في موضع الصورة التي تحتاج دائما الى تنميط بما يناسب الذوق العام وبمستوى استيعاب الجمهور، فيشير الى ان “نظرية فائض القيمة، مثلا، بحاجة الى زينة، بل والى لغة مثيرة يجعلها تتغلب على وطأة التاريخ” وتلقف المنظرون الجدد هذه الاطروحة ليضعوا مرويات الاحداث التاريخية التقليدية موضع الشك، او على طاولة المراجعة، وقد ساعدتهم بعض الاحداث ليتثبتوا من ذلك، فان الاعصار الرهيب الذي ضرب فرنسا في مطلع التسعينات ضرب، في ذات الوقت، مدونة تاريخية هندسية عن متانة البنايات الحديثة الراسخة وتصدع واحتضار القديمة، فقد سقطت الاولى وتماسكت الثانية.
على ان اليقين الكاثوليكي، كما هي الواحدية او الانتقائية، جميعا، من الغثاثات التي اثقلت المقولات التاريخية، وشحنت مدوناتها بالاغاليط، بجانب الامر الصحيح الذي يراه الصوفي ابو الحسن العامري بالقول بانه “لولا الخطأ لما أشرق نور الصواب” لكن الضرورة هي تصويب النظر الى الماضي على اساس انه –كما هو الحاضر- فيه الغث وفيه السمين، وقد وضع الامام على هذه المعادلة في كيمياء الصح حين وضع (في نهج البلاغة) موروث العصبية تحت معاينة عميقة بقوله: “إن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لإجتناب المفاسد في الارض”.
نعم هناك الان شكوك في سلامة ومصداقية المدونات التي ارخت الاحداث الكبرى، وثمة نصف تلك الشكوك ( كما يقول الروائي الامريكي المصلح هيرثورن) يمكن ان يكون صحيحا، يكفي ان نتذكر ان ايتماتوف في روايته (وداعا يا غولساري) كان يسأل فلاحا ثائرا عما دفعه الى الثورة فكان الاخير يجيب “لا اتذكر” ولكن ايتماتوف، مثلنا، كان سليم النية، بل وكان صادقا في كفاحه من اجل الحرية الى ابعد الحدود. القضية برمتها بسيطة، فان ما يعتبر حقيقة في جانب من جبال البرانس( كما يقول باسكال) يعتبر لا حقيقي في الجانب الآخر، ويُزعم ان نيوتن اكتشف قانون الجاذبية الارضية لما لاحظ تفاحة تسقط من الشجرة، لكن الوثائق العلمية لأكاديمية العلوم البريطانية تبطل رواية التفاحة وتؤكد انه تم التوصل الى صياغة قانون الجاذبية بعد نيوتن بسنوات. والحال، ان التاريخ كمقولات ثابتة، مطلقة، يبدو كمهزلة، ويشار هنا الى مقولة النعامة التي ترسخت في ذاكرتنا على انها تتقي الخطر عن طريق دس رأسها في الرمال، ثم يخبرنا العلم ان هذه الرواية لا ثبت لها ولم يشاهد احد نعامة تزاول هذه الحركة الملفقة، ويمكن ان نضيف الى حكاية النعامة الزائفة حكاية اخرى(اكثر زيفا) تتصل بدموع التماسيح، إذ نكتشف ان التماسيح لا تذرف الدموع لسبب بسيط هو انها لا تملك غددا دمعية.