حسين فوزي
تتواصل الإضرابات الواسعة في فرنسا احتجاجاً على رفع سن التقاعد إلى 64 سنة، الذي يعده غالبية الفرنسيين من العاملين في القطاعين العام والخاص سرقة لحياتهم الخاصة وفرص التمتع بها، بعد أداء الواجب العام في العمل لمدد حددها القانون.
ومن لا يعرف فأن تعديل سن قانون التقاعد الفرنسي وخفضه كان أحد مكاسب ما سمي بـ”ثورة الطلبة” عام 1968، التي أسفرت فيما بعد عن استقالة الرئيس الفرنسي شارل ديغول، قائد فرنسا الحرة التي رفضت الاحتلال النازي واستسلام حكومة فيشي بقيادة المارشال بيتان بطل الحرب العالمية الأولى.
الجنرال ديغول استجاب لطموحات التغيير التي طالب بها الطلبة والعمال الثائرون، فأعد مشروع تعديلات للدستور والقانون الفرنسيين، صوت عليها الفرنسيون بالموافقة، لكنها لم تكن بالنسبة التي طالب بها الجنرال ديغول، فقرر الاستقالة، عاداً نسبة الموافقة الشعبية عليها خذلاناً له…برغم الإقبال الواضح على تقبلها من الشعب الفرنسي، لكن “ضخامة” الأنا لجنرال سلاح المدرعات والقائد الملهم لتحرير فرنسا رفض هذه النسبة التي لم تتناسب وضخامة حجمه بحسب ما أعتقده.
نحن في العراق نتظاهر ونرفض قانون التقاعد بسن الستين لأننا بلا حياة شخصية نعيشها…فنحن نعيش “من البيت إلى الدائرة ثم البيت ثانية بعدها مقهى البيروتي بعد كل التحسينات التي طرأت عليها… أو ملاعب المولات ومطاعمها في أحسن الأحوال إن سمحت ميزانية العائلة..” وهكذا هي دورة حياتنا…
نحن نفتقر إلى أية “متنفسات” نلجأ لها في حياتنا اليومية، بالأخص نهاية الأسبوع يومي الجمعة والسبت، عدا بعض المطاعم وما أكثرها، وما أكثر أسعارها المرتفعة حتى قبل دوامة الدولار الأخيرة. أما في فرنسا فهناك الكثير من المرافق الترويحية والترفيهية والمعالم السياحية التي تريح الإنسان عموماً، وتغني ثقافة الطفل خصوصاً… وهناك مراعاة لقدرات المواطنين على الدفع، مع أن فرنسا عموماً ملتهبة الأسعار بحسب رؤيتنا من منظور مستوى مداخيلنا…
فالمتقاعد الفرنسي لديه الكثير من فرص الحياة في سن التقاعد عند بلوغه الستين، ونحن لدينا الكثير من خيبة الأمل والإحباط في تقاعد الستين، حيث تكاد تبدو الحياة وقد انتهت، فليس هناك الكثير، بالأخص وأن تقلبات الدولار ومضاربات التجارة تبتلع الدخل التقاعدي المحدود، بحيث يجبر المتقاعد على التحسب في إنفاق كل فلس لضمان لقمة خبز وسقف سكن لائقين وحد أدنى من الرعاية الطبية، بعكس المتظاهر الفرنسي الذي ضمنت له سلطة الأحزاب الاشتراكية واليمينية على حد سواء، الكثير من مستلزمات الحياة التي يتوق للتمتع بها في سن تقاعده “المبكر” عند بلوغه الستين حسب وجهة نظرنا.
الفرنسي يحصل على وقود التدفئة بسهولة، وعموماً جزء من نظام الحياة الفرنسي توفير أنظمة تدفئة في المساكن رخيصة الكلفة، سواء بالغاز أو المياه الساخنة، على عكس غالبية مواطنينا من ذوي الدخل المحدود الذين في الغالب يعتمدون النفط الأبيض ضمانة للتدفئة، وهم يزدحمون على حوضيات توزيع النفط الأبيض، كما كنا نزدحم على توزيع الدجاج والبيض أيام الحرب مع الجارة إيران، ومن بعدها نتزاحم أكثر أيام الحصار. علماً أن أسعار النفط عندنا تكاد تكون أعلى من أية أسعار في البلدان المنتجة للنفط في العالم، عدا الولايات المتحدة الأميركية، بسبب مستوى رواتب العاملين بالساعة هناك، فيما أسعار الوقود في فرنسا هي منسجمة مع بقية أسعار الديمقراطيات الغربية غير المنتجة للنفط..
إنها بعض من مفارقات الحياة بين بغداد التي كانت يوماً “باريس” العالم، وبين باريس التي هي اليوم “بغداد زمن مجدها العتيق …” العتيق بمعنى “المعتق المجيد” وليس البالي المتهرئ رجاء !؟