جان-ماري ستروب الغريب الأبدي

جان-ماري ستروب الغريب الأبدي

صفاء خلوصي

ترجّل أخيرا المتمرد الأزلي والمقاوم الأبدي لكل الأنظمة المهيمنة في الفن والحياة، المخرج جان ماري ستروب؛ الفرنسي المولد، الألماني الإقامة والإنتاج( كان له حضوره الطليعي المؤثر في السينما الألمانية بعد انتقاله إلى ألمانيا من بلده فرنسا رفضا للتجنيد الإلزامي للانخراط في حرب الجزائر وللتوجه الكولونيالي الفرنسي)؛ والعالمي التوجه (تنقل في الإقامة في عدة بلدان قبل أن يستقر قرب زميله غودار في سويسرا حيث توفي بعده بنحو شهرين) ، واللاممتثل المخالف لكل ماهو سائد والمُجالد الدائم في الوقوف في وجه الهيمنة وما يراه ديكتاتورية المال في النظام الرأسمالي أو ديكتاتورية النظام الاشتراكي بنسخته الروسية. فالثورة لديه مطلقة وشاملة لا مهادنة فيها، كما يقول في فيلمه القصير الأخير “فرنسا في مواجهة الروبوتات” ٢٠٢٠، الذي أهداه لصديقه غودار باسمه الأول جان-لوك، وصور في لقطة واحدة على ضفاف البحيرة في المنطقة التي يسكنان فيها؛ تبدأ من مسيره على ضفة البحيرة حيث نرى بجعة وسط البحيرة وتنتهي باقتراب البجعة من الضفة، وبينهما تصوره الكاميرا من الخلف وهو يتحدث عن فكرة الثورة ومواجهة هيمنة التقنية التي جمعت العالمين اللذين فرقتهما الأيديولوجيا. (للمكان دور جوهري في سينما ستروب ساتحدث عنه لاحقا).

تعرفت على سينما الثنائي ستروب وزوجته دانييل وييّ وجمالياتها المختلفة في أواخر السبعينيات عبر كتاب “السينما المعاصرة” لروبير لافون -غرامون، واتذكر أنني طلبت حينها من إدارة المركز الثقافي الفرنسي في بغداد (الذي أدين له بالكثير من تكوين ثقافتي السينمائية ،حيث كنت مدمنا على حضور عروضه لأفلام رموز السينما الفرنسية الكلاسيكية والجديدة، وكنت حينها أدرس أيضا كورسات لتعلم الفرنسية فيه) توفير أفلامه لمشاهدتها، ونسيت أن ستروب كان المتمرد الأكبر على النظام السياسي والاقتصادي والتقاليد الفنية في بلاده وينتج أفلامه في بلد “عدو” سبق ان خاض حربا ضروسا معها هو ألمانيا.
لقد توسع اهتمامي بسينما ستروب ووييّ، مع زيادة اهتمامي بنظرية السينما في العقود الماضية، حيث عكفت على دراسة تلك الجماليات المضادة للتيار المهيمن في السينما العالمية، ولفتت انتباهي تلك الأفلام التي حاولت استلهام نظرية برخت عن التغريب في المسرح أو تطوير جماليات مضادة تستند في كثير من خلاصاتها إلى الماركسية والنظرية النقدية، ولعل ستروب ووييّ، من أبرز من يمثلان ذلك. وتواصل منذ ذلك التاريخ المبكر بحثي عن أفلام ستروب التي يندر أن تجدها في الصالات وخارج متاحف الفن والعروض الثقافية الخاصة، واليوم في مكتبتي نحو خمسين فيلما لستروب ، (لا تنقصني سوى بضعة أفلام قصيرة من مجمل نتاجه، ٥٤ فيلما؛ من بينها ٢٥ فيلما بأخراج مشترك مع وييّ التي توفيت في عام ٢٠٠٦). وعكفت على دراسة جمالياتها المختلفة وتمردها على الأشكال السردية التقليدية وفهمها الخاص للواقعية وكذلك تعاملها المميز مع النتاج الأدبي والفني ونقله للسينما، بوصفه نتاجا ماديا واقعيا موازيا، يعيدان تقديمه بعناصر الواقع نفسه من دون إيهام. فالممثل لديهما لا يتماهى مع الشخصية أو يحاول إيهام مشاهدة بتجسيدها، بل يكشف عن أدواته ويقدم نفسه بوصفه ممثلا يقدم هذه الشخصية. وعندما قدم ستروب ووييّ فيلمهما “كرونيكل ماري ماجدولينا باخ” كانت الموسيقى هي مادة الفيلم التي تركاها تقدم نفسها إلينا أكثر من الجانب الدرامي المتعلق بسيرة مؤلفها باخ.
لقد خط ستروب ووييّ نهجا خاصا في التعامل مع الآثار الأدبية والفنية الأخرى وتقديمها ضمن أعمالها السينمائية، ككيانات مادية واقعية يتحاوران معها ويحاولان استنطاقها وليست كمواد يحاولان تجسيد حكاياتها ومساراتها الدرامية في أعمال تخييلية سينمائية. وهكذا كان تعاملهما مع أعمال هنريش بول وبرخت أو كافكا أو مارغريت دورا أو بافيزي أو إيليا فيتوريني الأدبية أو أوبرات شونبيرغ، بل وحتى الرسائل والنصوص الأخرى كما هي الحال مع رسائل كاندنسكي وباخ أو رسائل أنجلز لكاوتسكي التي قدماها في فيلمهما “مبكر جدا/متأخر جدا” عن كفاح الفلاحين الذي صورت بعض مشاهده في مصر .
كم تمنيت لو أن الزملاء والأصدقاء في فريق أمير رمسيس Amir Ramses في مهرجان القاهرة السينمائي، الذي تزامنت وفاة ستروب مع افتتاح فعالياته لو خصصوا ندوة أو فعالية خاصة له (لا أدري إن فعلوا ذلك)، أو على الأقل البحث عن تجربته في ما صوره بمصر في أفلامه.
سأحاول لاحقا أن أهيئ “ماستر كلاس” لشبابنا من محبي السينما عن خلاصات قراءتي لتجربة ستروب ووييّ، ومنجزهما السينمائي والنظري.

(Visited 4 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *