كتب ابراهيم البهرزي
ربما سأضع يدي في عِش الدبابير وانا اكتب موضوعي هذا الذي اعبر فيه عن افكار شخصية تحصلت عندي خلال أكثر من اربعين عاما من متابعة اعمال هذين الفنانين ابتدأت بالولع الشديد وانتهت لاحقا بالملل منهما ومما يقدمان.
يشكل عادل امام ودريد لحام ظاهرتين فنّيتين استحوذتا على عقول ملايين المتابعين خلال اكثر من نصف قرن لما يقدمانه من ( مُضحكات ) تسلي المواطن العربي المهموم دوما .
بدأ الاثنان منذ النصف الاول من الستينات بداية تجارية في ادوار تتخذ من شخصية المواطن الغبي المُستغفَل الذي لابد منه في الكوميديا العربية لاضحاك الناس عليه (في الحقيقة هي صيغة من الضحك على ألمشاهدين انفسهم لانهم واقعا يعيشون نفس الظروف المضحكة من التعاسة الناتجة عن الأوضاع الاقتصادية البائسة التي تنتجها حكومات شمولية مشغولة بالحماسات الوطنية والقومية الزائفة والاستعداد لحروب لا تقع ابدا على حساب وضع برامج للتنمية تزيح عن كاهل المواطنين أسباب البؤس التي تجعل من بعضهم اشبه لقرود السيرك المستخدمة للاضحاك )
كلاهما بدأ في سلسلة أفلام ومسرحيات تجارية لا تملك هدفا غير الاضحاك على هيئة وحال المواطن ، اشترك دريد لحام في ذلك مع الراحل نهاد قلعي ألدي كان كوميديا ارصن منه واشترك عادل امام مع فؤاد المهندس في ادوار التابع الغبي .
لم تكن البدايات لكل منهما تنبيءعن عبقرية تمثيلية بقدر كونهما (كاركترات ) جاهزة صاغها مؤلفون ومنتجون لتلبية حاجة المواطن الى ( المُضحكات ) الفارغة ، وهناك بالطبع فرق كبير بين الكوميديا الهادفة و( المُضحكات ) الفارغة .
مع بداية السبعينات وحاجة الأنظمة الشمولية لوسائل تنفيس تقلل من الاحتباس الجماهيري الناتج عن سلسلة الخسائر المخزية في معارك العرب مع ( اسرائيل ) يبدو ان وسائل المراقبة وصنع الشائعات في هذه الأنظمة قد انتبهت للإمكانية الكبيرة من الحضور الشعبي الذي يملكه هذا الممثلان فوجدت فيهما فرصة لخلق مشاغل مضحكة للجماهير العريضة !
في سوريا تم الاستعانة بشاعر عبقري مثل محمد الماغوط للاستفادة من قدرات دريد لحام في تقديم كوميديا تنفيسية تتناول هموم المواطن ولابأس من تطعيمها بعناصر مؤثرة من الغناء والمآسي التي تتحدث عن شهداء الحروب المقدسة وكان أسباب الخسارة والهزيمة كانت (فطوم حيص بيص ) لا غيرها ، وقد تكررت تجاربه مع الماغوط( الذي يبدو انه محتاج للمال دائما !)و الذي بدد عبقريته الشعرية في اعماله المشتركة مع دريد لحام في اعمال تنفيسية تراعي حاجة الشعب الى حرية لن تتحقق ( وسنكتشف فيما بعد انه حين تتحول هذه الحاجة الى فعل جماهيري حقيقي سيقف دريد لحام مع النظام وضد هذا الشعب الذي اضحكه كثيرا عن ظلم النظام وغياب الحرية ،فقد راحت ايّام الضحك والهزل و جاءات ايّام الجد والقصف بالبراميل المتفجرة للشعب الذي عاش ضاحكا لدريد لحام فأصبح غاضبا على النظام الذي يرعاه ،فلابد إذن لدريد لحام ان يكف عن تقديم المُضحكات له !)
من (كاسك يا وطن ) الى (ضيعة تشرين ) الى سلسلة كوميديات غوار كانت صورة دريد لحام هي صورة المواطن المغلوب الباحث عن الحرية التي لا يملك غير مفتاح الضحك سبيلا اليها وحين حانت الحاجة الفعلية لهذا المفتاح رماه.وارتمى نائما في حضن النظام .
لم تكن كل كوميديا دريد لحام سرى صمامات أمان )safety valve ( تقوم بتسريب ضغط الغضب الشعبي بإشراف النظام نفسه ولذلك طَل دريد لحام وفيا للنظام السياسي ابا وابنا وحفيدا ربما ان امتد به العمر اطول مما هو عليه .
عادل امام بدا هو الاخر بتقديم (مُضحكات ) خالية من اَي هدف غير الضحك لذاته ،بدأها هو الاخر مع كاتب كان ذات مرة من اهم كتاب المسرح المصري لكنه مع فترة الانفتاح والتطبيع صار اول زوار وأصدقاء ( اسرائيل ).
كان ( علي سالم ) الذي قدم ( مدرسة المشاغبين ) مع عادل امام قد اصبح يمثل إرادة النظام السياسي في استخدام عادل امام كلعبة جميلة يمكن بحركاتها النمطية المضحكة ان تكون شاغلا للناس الغلابة عن هموم الهزيمة وهموم الخبز وسواها من هموم ، ويبدو انه بتوجيه من جهات المراقبة ( وهي في مصر لها حرية صناعة وتوجيه اَي عمل فني او نجم تختاره !)
فقد تم خلال السبعينات والثمانينات وما بعدها استخدام الدمية المضحكة المحبوبة شعبيا وذات الجماهيرية العريضة في أزمات شتى ابرزها الأزمات مع الجماعات الاسلامية فكانت اعمال عادل امام عن الاٍرهاب والإرهابيين هي وجهة نطر النظام السياسي في خصومه من الجماعات الاسلامية وليست وجهة نظر جماعات مدنية متحضرة تفكك هذه الطاهرة العنيفة المتخلفة وارتباطاتها الدولية فكانت صورة الإرهابي في (مُضحكات ) عادل امام المكررة هي صورة ذلك المسكين الذي يخدعه امام مسجد طويل الذقن ويستغل براءته التي سرعان ما تنتهي بالتوبة والعودة الى حضن الدولة !
وهي ذات الاستراتيجية التي اتبعتها السلطة في استتابة اعضاء الجماعات الاسلامية في ما يسمى بفكرة ( المراجعات ) التي تشبه حالة ( البراءات والتعهدات ) التي استخدمت مع الشيوعيين في العراق في فترات مختلفة .
غير تصفية الحساب مع الإسلاميين كانت الدولة تزج ببعض ( الموالح ) للنيل من اليسار المصري ،ففي مشهد من فيلم الإرهابي كان عادل امام (الإرهابي ) ولاجل التخلص من شكوك ضابط الامن يقول له ( انا واد شيوعي مخلّص بتاع خمرة ونسوان) وهو تعبير مزدوج الاساءة فمن جهة تشير الى ان الشيوعيين لا يشكلون في هاجس رجل الامن الا هذا النموذج المنبوذ ومن جهة اخرى يقدم للمشاهد البسيط صورة مشوهة عن اليساري المصري .
اما في فيلم ( السفارة في العمارة ) فقد كات الاساءة لليسار المصري اكثر بكثير من الاساءة للسفارة الاسرائيلية في الفيلم .
فقد قدم صورة بطلة الفيلم اليسارية وعائلتها في ابشع مظاهر الانحلال والسذاجة والغباءعلى عكس صورة السفير الاسرائيلي التي قدمها في صورة غاية في الذكاء والتهذيب ! ،بل انه استخدم عامدا لبعض شخصياتها اسماء تحظى برمزية عالية في تاريخ اليسار المصري ،قدمها عبر شخصيات كاريكاتورية ممسوخة فاستخدم اسم شهدي ( ملمحا الى شهدي عطية الشافعي احد قادة اليسار المصري الشهداء ) وكذلك اسم عطيات ( في اشارة للمناضلة عطيات الأبنودي ) بطريقة لا تستدعيها اَية ضرورة درامية غير غاية التحقيرالرمزي والتاريخي .
ظل عادل امام كما طل قبله دريد لحام وفيا لارادة النظام السياسي في بلده مهما اختلفت قيادات بلده ، فسواء عنده الرؤوساء السادات او مبارك او السيسي فهو وفِي لا ينتقد الا بما تمليه عليه جهات المراقبة في البلاد من خلال تقديم جرعات التنفيس في مواضيع محددة خلال ظروف محددة بما لا يمس جوهر النظام
وقد حصد كلاهما من الثروات الناتجة عن ضحك الجماهير البائسة ماجعلهما من كبار الأثرياء .
هذه وجهة نظري الشخصية التي تحرص في ذات الوقت على احترام وجهات نظر محبي هذين الفنانين (وهم بالملايين ) وتتفهم محبتهم وعشقهم لهذين الفنانين ، وهي وجهة نظر لا تنال من الكرامة الشخصية لأي منهما وتحتفظ مع ذلك بقدر من الاحترام لهما لما بذلاه من جهود لاضحاك الشعوب الحزينة .