الصحوة المتأخرة ..!! / السيد حسين الصدر

حسين الصدر
-1-

من أوجع الصدمات التي يُمنى بها الانسان هي صدمة التقصير الذي لا يُتدارك الاّ بعد فوات الأوان .
انّ هذا التقصير يكشف عما يعتمل في النفس مِنْ تباينٍ في الحالات ، وتفاوتٍ في المشاعر ، فهي قد تنبسط فتعطي بسخاء وقد تنقبض فلا تُقدّم شيئا ذا بال ..!!
-2-

انّ مغالبة النفس وترويضها على التزام الاعتدال والتوازن في كل الاوقات هو من أهم ما يجب أنْ يهتم به الانسان ، والاّ فانه قد يقع في المطبّات الموجعة ، والتي تبقى آثارها السلبية تلاحقه حتى بعد الموت..!!
-3 –

ومن أبرز المصاديق في هذا الباب قصة الشاعر العاشق ( ابن زُرَيْق ) البغدادي الذي سافر مِنْ بغداد الى الاندلس قاصداً اميرها عبد الرحمن الاندلسي ومنتجعا رفده وفضله ، فخيّب ظَنَّه ولم يقدّم له الاّ مكافأة ضئيلة على قصيدة قالها فيه مع أنّها من رائعات القصائد وغرر الشعر .
ولقد عاش (ابن زريق ) أزمة نفسية حادّة، حيث أحسَّ بأوجاع فراق ابنة عَمِّه ، التي كانت قد ملكتْ قلبَه وما تكبده من عناء عبر المسار الطويل المُوصِل الى الاندلس وأميرِها
وما آل اليه موقفه البارد وعطاؤه الهزيل .
ولم يستطع أنْ يتحمل أعباءَ الصدمة فاعتل بَدَنُه حتى مات في غربته..!!
وبعد أيام مِنْ موتِه سأل عبد الرحمن الاندلسي عنه فوجده ميّتا في خان كان قد نزل فيه .
ووجدوا عند رأسه قصيدتَه العينية الشهيرة التي قال فيها مخاطباً ابنة عَمّه :
لا تعذليه فان العذل يُولِعُهُ
قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعُهُ
جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفقَ فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٌ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِنْ فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفو الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وكم تشفّعَ بي أن لا أفارقُه
وللضرورات حالٌ لا تشفّعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
أعطيتُ مُلكا فلم أُحْسِنْ سياستَه
وكلُّ من لا يسوسُ الملكَ يَخلَعُهُ
ومن غدا لابساً ثوبَ النعيم بلا
شكر عليه فَعَنْهُ اللهُ ينزعُهُ
كم قائل لي ذقتَ البينَ قلتُ له :
الذنب واللهِ ذنبي لستُ أدفعُهُ
ما كنتُ أحسبُ أنَّ الدهر يفجُعني
بهِ ولا أنّ بي الايام تُفجعُهُ
علّ الليالي التي أَضَنَتْ بفرقتِنا
جِسْمِي ستجمعُني يوماً وتجمعُهُ
وإنْ يدمْ أبداً هذا الفراقُ لنا
فما الذي بقضاء الله نَضَنَعُهُ
والقصيدة في غاية الرقة واللطف والروعة في البوح بما تجيش به أعماق النفس من حب وتحنان .
وحين وقف عليها الأمير الاندلسي سال الدمع من عينيه وقال :
” وددتُ لو أنَّ هذا الرجل في قيد الحياة وأشاطره ملكي ”
ثم ارسل الى أهله في بغداد عشرة آلاف دينار وأَعَلَمُهُم بموته ..
-4-
أقول :
وصلت المكافاة بعد موت ( ابن زريق ) كما نصنع مع امثاله من الشعراء والنابهين حيث نتركهم يموتون لتبدأ احتفالات التأبين وكتابات المفكرين والمثقفين عنهم بعد ان كانوا قبل موتهم في سبات عميق ..!!
وما ضرّهم لو أنهم عبّروا عن مشاعرهم تلك قبل أنْ يغمض الموهوب عينيه ويتركهم راحلاً الى دار البقاء .
وهل تجدي الحسرة بعد فوات الأوان ؟
حسين الصدر
Husseinalsadr2011@yahoo.com

(Visited 8 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *