ساوة العجوز أو لؤلؤة الجنوب لمَ ترحل بصمت / مصطفى الغزي

ساوة العجوز أو لؤلؤة الجنوب لمَ ترحل بصمت / مصطفى الغزي

تحقيق / مصطفى الغزي 

      بحيرة ساوة لم يكن رحيلها مفاجئاً، بل نازعت كثيراً لأجل البقاء على وجه الأرض، ولم تجد من يكترث لشأنها ويعي أمر رحيلها، فكان ذلك متوقعاً ونتيجة حتمية للإهمال وعبث الإنسان بسبب إسرافه واستنزافه لثروة المياه الجوفية من خلال حفر الآبار الإرتوازية بشكل عشوائي ومفرط،ناهيك عن التغيرات المُناخية القاهرة التي يشهدها العالم عامة والعراق خاصة دون إيجاد الحلول الناجعة من قبل الحكومات المتعاقبة، فكان ذلك إيذاناً بإنقضاء أجل البحيرة العجوز التي حيرت علماء العالم فلم يصلوا لتفسيرات توضح بعض ظواهرها ولم يتمكنوا من فك مغاليق الكثير من أسرارها، فرحلت محتفظةً بأسرار وحكايات واقعية وأخرى خيالية تناقلها الناس عنها.

     لقد أخذ إنحسار مياه البحيرة وقتاً طويلاً وقد لوحظ ذلك من قبل الباحثين والجهات ذات الشأن، لكن لم تُبدِالحكومة المركزية اهتماماً يوازي شأن الموضوع، ولم نرَ منها عقد جلسة استثنائية وتشكيل خلية أو فريق لإدارة الأزمة والقضاء عليها، سوى اجتماعات دخلت في خانة الروتين المقيت ومحاولات خجولة من قبل الجهات ذات الشأن والتي لا ترقى أبداً إلى حجم الخطر الذي يُنذر به تراجع مستوى مياه البحيرة، فكان جفاف ساوة ليس مجرد انحسار لمناسيب مياه بحيرة اعتيادية، وإنَّما حدثاً تاريخياً ذو وقع مدوي في أوساط العلماء والباحثين المثقفين محلياً ودولياً، لأنه يُشكل خلخلة لتوازن التنوع الإحيائي والنظام البيئيسَّيما أنَّ البحيرة تُشكل موقعاً ذا أهمية دولية يدخل ضمن اتفاقية (رامسار/ Ramsar) الخاصة بالأراضي الرطبة التي جرى اعتمادها عام 1971م في مدينة رامسارالإيرانية، وقد انضم العراق إليها في 22/1/2007م.    

      تبعُد بحيرة ساوة (22 كم) تقريباً شمال غرب مدينة (السماوة) مركز محافظة المثنى على حافة الهضبة المتقطعة في موقع انتقالي بين الهضبة الصحراوية الغربية والسهل الرسوبي، ويحدّها من الشرق والشمال الشرقي نهر العطشان بمسافة تقل عن (2كم) في أقرب نقطة، أما من الغرب والجنوب الغربي فيحدها هامش السهل الفيضي الذي تصب فيه مجموعة من الأودية الجافة، مع وجود الكثبان الرملية شرق وغرب البحيرة.

      وتُعد هذه البحيرة من أقدم البحيرات المذكورة تاريخاً؛إذ يعود زمن تكوينها إلى ما يُقارب العشرة آلاف سنة (في عصر الهولوسين)، وتختلف عن غيرها من البحيرات بعدد من الظواهر الطبيعية، فضلاً عن الحكايات الأسطورية التي حيكت عن وجودها وظهورها فإنَّ ثمة حقائق علمية تؤكد تميزها وغرابتها.

      تبلغُ مساحتها قرابة (5.5 كم) تقريباً، وترتفع عن الأرض المحيطة بها (5م)، بينما ترتفع عن مستوى نهر الفرات (11م) والذي تبعد عنه مسافة (10 كم)، وشكل البحيرة كمثري أو يشبه (فخذ الدجاجة) محاطة بجرف تكون جراء الترسبات الكلسية.

      إن متوسط عمق ماء البحيرة (5 م) تقريباً، أما أعمق نقطة فيها فتصل إلى (17 م) والتي تُمثّل الصدع الذي يقوم بعملية السحب العكسي لمياه البحيرة، تحتوي مياه البحيرة على نسبة أملاح مرتفعة جداً بل أعلى من ملوحة مياه الخليج بمرَّة ونصف، ممَّا يجعلها أقرب إلى مياه المحيطات منها إلى مياه الأنهار والبحيرات، فضلاً عن احتوائها على نسبة معادن (أبرزها الكبريت) مختلفة التراكيز ما بين السطح والأعماق، كما تتميز مياه البحيرة بصفة الايصالية الكهربائية.

      وتكمن أهمية البحيرة في أنها مغلقة من جميع جهاتها؛إذ لا تملك أنهاراً تصب فيها أو تخرج منها، وإنما تستمد مياهها من المياه الجوفية التي تغذيها من صدوع الأرض، حيث أَظهرت نتائج الدراسات أنَّ البحيرة تتغذى من مصدرين للمياه، هما المياه السطحية المتمثلة بمياه الامطار(مصدر ثانوي)، والمياه الجوفية المتمثلة بثلاث عيون مائية تغذي البحيرة بصورة مباشرة وتعد المصدر الرئيس لمياهُها.

      ومن عجائب البحيرة ثبات مناسيب مياهها سيما في السنوات الماضية رغم ارتفاع درجات الحرارة )درجة الحرارة في منطقة بحيرة ساوة تتراوح بين 27 إلى 44 درجة مئويةوأكثر)، وشَّدة التبخر فيها، فضلاً عن عدم تراكم الأَملاح داخلها رغم ارتفاع نسبة ملوحة مياهها، ويكمن سر هاتانالظاهرتان في وجود صدع (موقع) في بحيرة ساوة يزيد عمقه عن (17م) على بعد (100م) من الحافة الغربية للبحيرة يقوم بعملية سحب المياه من البحيرة بشكل ممر مائي الى تكوين جيولوجي آخر واقع غرب البحيرة، وتلك الظاهرة تدعى بــ (عملية السحب العكسي) بشكل حلقة دوران للمياه من سطح البحيرة نحو نقطة ذلك الصدع، ويتضح ذلك من خلال التصوير الجوي بطائرة (الدرون).

      إنَّ تغذية البحيرة بالمياه تقابلها عملية سحب عكسي، مما يُنتج ثباتاً نسبياً في مناسيب مياه البحيرة، كما أنَّعملية السحب أسرع من عملية التبخر مما ينعكس على انخفاض نسبة الأَملاح مقارنة بمنطقة المملحة المجاورة للبحيرة وذات الظروف البيئية والمائية المماثلة.

      أما بيئة البحيرة الأَحيائية فأنها تفتقر إلى نمو النباتات بداخلها وعلى ضفافها بسبب ملوحة مياهها، وتُعد الطحالب والحشرات والقواقع والأسماك أهم المخلوقات المائية فيها، إذ يعيش فيها نوع واحد من الأســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــماك هو: ((Arabian tooth carp وهي أسماك عمياء وشفافة من فصيلة الأفانيوس (Aphanius)، إذ لا يزيد طولها عن (10سم)، تتميز بمظهرها الناعم وامكانية رؤية هيكلها العظمي  ونسبة شحومها العالية جداً حتى أنها تُعرف في العراق بـ (أبو الشحيّم)، مما يجعل عملية صيدها وطبخها غير ممكنة، لأنها ستذوب في النار بالكامل، كما يعيش في قعر البحيرة نوع من الحلزون يسمى (Pomatiopsis) وله القابلية على العيش في المياه المالحة.

     على عكس الحياة المائية الفقيرة تزخر البحيرة بأنواع الطيور المائية حيث تصل أنواع الطُيور إلى (25) نوع ، أهمها (البط ، الغر أرواسي، الغطاس الصغير، الهدهد العراقي، الخنَّاق الرمادي)، بينما تعيش العديد من اللبائنفي الحزام الصحراوي الذي يحيط بالبحيرة منها: (الثعالب، الضباع، غرير العسل)، فضلاً عن أنواع من الزواحف أهمها ثعبان الماء.

      وتُمثل بحيرة ساوة قبلة لكثير من السياح العراقيين والعرب والأجانب على اختلاف جنسياتهم، إذ يرتادونها لأغراض الدراسة والترفيه والعلاج، إذ توصف مياهها الكبريتية علاجاً لكثير من الأمراض الجلدية.

      تلك بحيرة ساوة بظواهرها وعجائبها وعمرها الجيولوجي، وهذا واقعها المؤلم، فقد جفَّت تماماً ولم يبقَمنها سوى مناسيب مياه بسيطة في العين الرئيسية التي تغذيها، فجب على الحكومة المركزية والمراكز البحثية والمنظمات المهتمة بالتنوع البيئي وكل الأطراف المنظمة إلى اتفاقية رامسار (Ramsar) وغيرها من الإتفاقيات أن تتحرك عاجلاً وتفعل المستحيل أملاً في البحث عن حلول ناجعة لإحياء البحيرة وعودتها إلى الوجود.

(Visited 85 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *