بليغ أبو گلل
السياسية لا تعترف إلا بالقوي، والقوة في السياسة لها مجموعة من العوامل، وأولى عوامل القوة لأي حزب أو تيار سياسي في العراق هو عدد مقاعده النيابية، وأولى الأمور التي تؤثر في عدد النواب هو (وضوح الخطاب السياسي وقوته وصدقه)، ولقد كان الحكيم يمتلك العنصر الثالث بما لا يمتلكه أحد -من وجهة نظري- ولكننا افتقدنا إلى العنصرين الأوليين بصورة جلية، حتى بات يُعاب علينا ذلك بأننا لا نملك لونًا ولا طعمًا خاصًا بنا وبأننا لا نستطيع المواجهة في ميدان السياسة!
والحقيقة أن الحكيم امتلك وضوح الخطاب وقوته ولكنه لم يمارسه عمليًا أمام الجمهور، بل كان يفعل ذلك في كل اللقاءات السياسة البينية، وكان يقول رأيه بصورة جلية وبلا تردد وبشجاعة لا يقوى عليها الكثيرون، مع قمة في الأدب الرفيع واللغة الراقية والتعبيرات الدقيقة، وكان في بعض المرات صريحًا بشكل علني على غير عادته تقديرًا منه أن هذه الصراحة لا بد منها لمواقف مفصلية لا ينبغي فيها السكوت أو التلميح، وأذكر في هذا الشأن موقفه من استفتاء الإقليم نحو الانفصال والذي تحدّث فيه بعبارات واضحة وإجراءات عملية فاعلة وفي بعضها كانت قاسية وغير متوقعة منه! وكذا موقفه من داعش في أوائل المعارك ولبسه الزي العسكري وتشكيله لعدة ألوية مقاتلة والذي عوتب عليه من بعض الأطراف، فكان جوابه: إن هذه القضايا لا تقبل السكوت ولا غض الطرف عنها، وإن مفسدتها لا تُعالج إلا بالموقف الصارم والحازم!
كنا نذكر لسماحته إشكال عدم قوة الخطاب ووضوحه أمام الجمهور، ولطالما ضغطنا باتجاه أن نزيد من هذين العاملين ولكنه كان عصيًا في ذلك، وكان يردد دومًا أمامنا أن دور الحكمة يمثل عنصر الالتقاء بين الأطراف المتنازعة أو المتصارعة أو المتنافسة، وأن هذا الدور لا يقدّر بثمن لما فيه من فائدة العراق، وأن الدخول في مناكفات وخصومة لأجل كسب عدة مقاعد سيزيد من الاحتقان الوطني وأن مسؤوليتنا أن نكون عنصر التوازن لا عنصر تصارع وتصادم!
ولكن خطابه الأخير في يوم الشهيد العراقي شكّل صدمة عند الكثيرين من محبين ومنافسين لما فيه من وضوح وصراحة لم يكن يعهدها الكثيرون من الحكيم! والسؤال الذي يجب أن نطرحه قبل دفع إشكالية هذه الصدمة، وهو هل كان خطاب الحكيم الأخير في يوم الشهيد العراقي غائبًا في أدبياته وفي حواراته مع القادة جميعًا قبل هذا التاريخ؟ وأقصد به خطاب حفظ حق المكون الاجتماعي الأكبر في هذا البلد، والجواب بصدق، أن ما تحدّث به الحكيم في آخر خطاب لم يكن غائبًا عنه مطلقًا في كل مساراته ولا لقاءاته ولا مشروعه العابر للمكونات، وكان يتحدث بضرورة أن يكون الشيعة وهم المكون الاجتماعي الأكبر يمثلون النصف +1 في معادلة تشكيل الحكومة وفي معادلة المعارضة، وبهذا فإن حقهم لن يضيع في كلا المسارين، وقد ذكر ذلك بوضوح لكل القادة الذين أراد التحالف معهم قبل الانتخابات في ما أطلق عليه اسم (التحالف العابر للمكونات)، وكان لا يقبل أن يدخل في أي معادلة بعد الانتخابات يكون فيها الشيعة دون النصف حتى لو أتت برئاسة الوزراء له، كما أنه لم يكن يقبل أن يتحالف مع أي طرف سني أو كوردي بعد الانتخابات من دون أي يمتلكا النصف +1 من تمثيل مكونيهما وهذا ما تحدّث به مع الجميع بصراحة متناهية، وهو ما كان مقبولًا من الجميع كذلك. ما ذكره الحكيم في خطابه في يوم الشهيد العراقي لم يكن جديدًا مطلقًا وكل ما فعله أنه أظهره إلى الجمهور، وعرّفهم موقفه علانية بوضوح تام، ومع أن هذا الخطاب لو حصل قبل الانتخابات لغيّر من توازنات المقاعد إلا أنه لم يستخدمه حتى لا يُقال أنه يستغل الاصطفاف المذهبي لأجل المقاعد البرلمانية!
لقد ذكّر الحكيم بشكل علني بعد الانتخابات بنظريته التي كانت هي عينها قبلها، بأن هناك خطرًا على العراق بجعل مكونه الأكبر أقلية في معادلة تشكيل الحكومة، وأن هذا لن يؤدي إلا إلى انحرافات تمزق العراق وتدخلنا في تصارع سيبدأ ولن ينتهي على كل مساحة الوطن من دون استثناء.
لقد سعى الحكيم إلى استثمار شيعيته (وطنيًا) في تشكيل تحالف وطني عابر للمكونات وعلى الرغم من تحمّس الأخ الحلبوسي لذلك إلا أننا سمعنا من بعض إخوتنا أن شارعهم السني غير مستعد للقبول بتحالف مع عمامة شيعية وإن كانت تمثل رمز الاعتدال! وكان واضحًا لدينا بأن الديمقراطي الكوردستاني لا يريد تحالفًا وطنيًا عابرًا للمكونات لأنه سيخسرهم قضية الدولة الكوردية وإن كان هذا التحالف مع من كان جدّه سببًا في حقن دماء الكورد!
وعودًا على بدء فإن كنا تحمّلنا هذا الزهد -من الجمهور أو من أغلب القوى السياسية- بالخطاب الوطني المعتدل والعقلاني لأننا أردنا أن نلملم شتات وضع العراق بعد حرب ضروس مع داعش وبعد نكسة الاستفتاء وهزة تظاهرات تشرين، فلا سبب يدعونا اليوم لتحمّل ذلك بعد الآن، وسنعلن للجمهور مواقفنا في الدفاع عن المكون الأكبر بوضوح تام والتي لم نكن نذكرها سابقًا، كما يذكر السياسي السني والكوردي وغيرهما قضاياهم بلا تردد، ولأن السياسة وقواها تريد القوي ولا تعترف إلا بعدد مقاعدك النيابية فسنأتيهم في الانتخابات القادمة -إن شاء الله- بأقوى مما كنا عليه في أي مرحلة سابقة، ولكننا سنكون الأقوياء المعتدلين الحرصين على إخوانهم العراقيين جميعًا وعلى وحدة العراق وأن يأخذ كل عراقي حقه.