كتب / نعيم عبد مهلهل
منذ أغنيات الريل وحمد والبنفسج التي كتبها مظفر النواب وانتشرت في مسجلاتالكاسيت شيئاً من ذاكرة الحنين والغرام والانتماء في حواس وأمسيات المعلمين يوم تبتعدالمدينة عنهم، ويقترب من أنوفهم نسيم هواء الأهوار المُشبع برائحة قصب البردي والسمكودخان الخبز المشوي في المساءات الرطبة عندما لا يجتمع الجوع والبرد في مكان واحد.
وحيث يتجمع أفراد العائلة في صريفة واحدة يحكمون سقفها القصبي بالطين كي لا ينزّمن سقفها المطر، وحيث يستقر بعض المعدان إلى شهية التبغ (التتن) بواسطة اللف بورقشفاف كان عطارو الزوارق يجيئون لهم بنوعين منه هما البافرة والرشيد، وكانوا لايدخنون السكائر العادية وحتى الرخيص المسمى (المبزن) وهو نوع من السكائر تتمصناعته يدوياً، وقلة منهم من يقرّبون أفواههم من السجائر، وربما عرفوا التبغ من خلالالجنود الترك الذين يمرون بالقرى أثناء حملات التأديب ضد الثوار، أو تلك العلب منالسكائر التي وزعها الرحالة والجنود الإنكليز بعد حملة احتلال العراق.
يسكن الليل هاجس مكان ظل يعيش على قدرية الطبيعة منذ الأزل وإلى اليوم.
وكلما نسمع في صمت الليل وإبحارنا في سماء الأغاني سعال من يدخنون بصمتِ المكانوبرد شتائه فيما أطفاله وزوجته ينامون إلى صباح يفتحه الله بأصابع الشمس الدافئة،والتلاميذ منهم مَنْ أنهى واجبه المدرسي بحل مسائل (الحساب) وهو يعلن انزعاجه منسيجارة أبيه ويحاول أن ينبِّه من خلال سعاله، لكن الأب لا يكترث، وكأنه يردد ما كنا نردّدهفي قصيدة مظفر النواب (أيام المزبن كضن، تكضن يا أيام اللف) كتورية على أن الطغاةسقطوا، وسيجيء الدور على طغاة آخرين.
هذه الحياة التي تتطاير أوراقها الآن مع دخان سجائر اللف ودفاتر ورق البافرة عندماكانت تدفعني هواجس الغرام والحلم الوطني لأشتري من عطار القرية دفتر ورق (البافرة) ليس لأصنع منه السجائر، بل لأكتب عليه قصائدي على الرغم من أنه شفاف، ولا يتحملالحبر إذ (يبشُّ) فيه، فيما لا يظهر قلم الرصاص واضحاً في كتابته وتمزق نبلته الورقبسهولة، وحده قلم الجاف مع الانتباه وعدم ضغط القلم بقوة على الورق ما أستطيع أنأدوِّن فيه كلمات من شعر روحي وأهيم في أمنيات الرؤيا والتوحّد مع روح المكان وسعالساكنيه.
لم أجد هذا الورق في كل ألمانيا على الرغم من أنهم كانوا يقولون: إن الأتراك أخذوا صناعتهمن الألمان، وفي لجة البحث في أرشيف التدخين في هذه البلاد اكتشفت مئات الطرقللتدخين منذ العصور القديمة وإلى اليوم، ومنها ورق اللف، وكان الورق يأتي من بافاريالعموم ألمانيا.
ذكريات تلك المشاعر المكتوبة على ورق البافرة هي خطوات الحلم في شوارع أرواحناونحن نبحث في صفاء سماء ليل الأهوار عن أجوبة لأسئلة الوجود، وننتظر النجمةالعرافة تحدد لنا مصائر أمنياتنا، في السفر وفي الزواج وفي حياة أفضل.
قصائد ورق البافرة، استذكار لدهشة الحرف في الكتابة الأولى، على ورق البردي، وألواحالطين، وجدران القلب.
إنها على الرغم من صعوبة رسمها على الورق إلا أن ذكرياتها بعد عشرات السنين تحملطعماً خاصاً، ذلك الورق الأبيض المائل إلى لون التبن، والمخلوط بسعال وأحلام أهل القريةالبسطاء والمتعري بدهشة لحظة الحب مع أغنيات الغرام وتخيل السفن والقطاراتالمسافرة.
له مديح متعته السريالية الرائعة وأنت تكتب عليه قصيدتكَ وبحروفها ترسم وجه امرأةتعشقها…..