عبد الحسين شعبان / أكاديمي ومفكّر
الموسيقى حسب شكسبير هي “غذاء الروح” ويضيف و “غذاء الحب” أيضاً، لأنها تؤنسنالروح والحب وبدونها ستكون الحياة خطأ فادح، ومنذ القدم قال أرسطو: الموسيقى أداةتطوير للنفوس وراحة للقلوب، ولذلك أن تهتم مؤسسة الفكر العربي بالفنان الموسيقيزرياب فهذا أمر له أكثر من دلالة:
أولها– أن الموسيقى إحساس يعبّر عن “الجمال المسموع” وهي سموّ يسعى الإنسان إلىبلوغه لأنه يتعلّق بالوجود الإنساني، فهديل الحمام وزقزقة الطيور وشقشقة العصافيروحفيف الشجر وصليل الماء تدخل إلى القلب والعقل في آن. و كان بيتهوفن يعتبرها “وحياًيعلو على كلّ الحِكَم والفلسفات“، وحسب هوبمان “من لا يستطيع أن يتجاوب معالموسيقى فلا قلب بين ضلوعه“.
ثانيها – تتأتّى من قيمة مؤسسة الفكر العربي، لما تحمله من رمزية جامعة لنخبة متميّزةمن المفكرين وكوكبة لامعة من المثقفين العرب، حين تخصص حلقة مرئية عن زرياب، لإدراكها لما تمثّله الموسيقى من لغة للصداقة والسلام والتواصل والمشترك الإنساني بينالأمم والشعوب، وهي لغة تمثّل الذوق والحسّ والمشاعر الشفافة في زمن تصبح الحاجةإليها جزء من الحياة.
ثالثها – أنها محاولة لإحياء تراث موسيقي أندلسي، ولإظهار مساهمة العرب الريادية فيعالم الموسيقى باعتباره فناً راقياً باستعادة حداثية مدنية بالضدّ من المحاولات التي تريدتقبيحها و بالتالي تحريمها و تجريمها باعتبارها “بدعة مستوردة” أو “ضلالةً” لاتستهدف سوى التحلّل وإثارة الغرائز والمجون.
ورابعها – استعادة لدور العرب في الأندلس التي كانت تعيش عصراً ذهبياً في ظلّ التنوّعوالتعدّدية بما يعمّق التواصل الثقافي والتفاعل الحضاري والعيش المشترك في ظلّمجتمع متعدّد الثقافات تعزيزاً لقيم السلم والتضامن والتسامح والتعاون.
اضطرّ زرياب إلى الهرب من بغداد التي كانت تعيش مجدها خشيةً من الانتقام منه بسببغيرة نشبت في قلب أستاذه اسحاق الموصلي حين قدّمه إلى هارون الرشيد فنال إعجابه،لكن نوازع الشر سرعان ما تحرّكت في أعماقه فهدّده ليرحل بعيداً عن بلاط الخلافة، فاتجهصوب الأندلس، ثمّ جاءته دعوة من “الحكم بن هشام” لاستقباله في قرطبة عاصمةالأندلس، حققها لاحقاً نجله عبد الرحمن الأوسط بعد أن توفّيَ والده، وهذا الأخير كانمولعاً بالفن والثقافة، ولزيادة التكريم خرج بنفسه وحاشيته لاستقبال الضيف زريابوعائلته وأكرمه خيراً وغمره بالهدايا والعطايا.
كان زرياب داكن البشرة وذو صوت عذب لذلك كنّيَ ﺑ “زرياب” على اسم الطائر الأسود ذوالزقزقات الجميلة، وقد ولد في العام 789 ﻡ ( 173) ﻫ ، وتوفي العام 857 ﻡ (243 ﻫ) . واسمه الحقيقي أبو الحسن علي بن نافع.
كان وصول زرياب إلى الأندلس حدثاً كبيراً، فسرعان ما ترك بصمته الواضحة على الحياةالثقافية والاجتماعية في المجتمع الأندلسي ، ولم يكن فنّه مقتصراً على الموسيقى ، فقدأشاع طريقة حياته في الإتيكيت والأناقة وتسريح الشعر وتنظيف الاسنان بمادة أشبهبمعجون الأسنان التي نعرفها اليوم، واستخدم الأدوات والآنية الزجاجية لأول مرّة واختارالثياب للفصول المختلفة من السنة، كما اهتمّ بنوع المأكولات وطريقة تقديمها على المائدة،وهو الذي ابتدع تناول الحساء “الشوربة” في البداية، ثم الوجبة الأساسية كاللحوموغيرها، وبعد ذلك تناول الحلويات والفواكه، واشتهر بطريقة تقديم الفطائر المحلّاةبالعسل والمحشوّة باللوز والسمسم، وقد أقبل الناس على ذلك مفتونين به ومعجبين بأدائهومستمتعين بطريقة الأكل تلك، وحتى اليوم فإن المطاعم الفرنسية، بل أشهر المطاعمالعالمية تقدم الأكل على الطريقة الزريابية.
مزج زرياب بين الثقافة العباسية والثقافة الأندلسية، وأنشأ معهداً موسيقياً يُعدّ أول معهدفي العالم، واستقطب الفن من المشرق والمغرب، و جدّد اللون الموسيقي للغناء في الأندلس،خصوصاً وأنه يرتكز على ثقافة موسيقية بغدادية، وكانت بدايته مع الموسيقي الكبيروالأول اسحاق الموصلي، كما استقطب عدد من النساء القادمات للأندلس لتعلّم الغناءومنهنّ عايدة المدنية وقمر والعجفاء وكنّ من الجواري.
ومن إنجازاته الأخرى أنه أدخل الشطرنج إلى أوروبا. وكان يحفظ حوالي عشرة آلاف أغنيةولحن عن ظهر قلب. ووضع أصولاً منظِّمة للغناء لبلاد المغرب العربي، كما أن آلة الغيتار(القيثارة) التي نعرفها اليوم نقلها العرب إلى أوروبا على هيئة أداة العود، ثم أضافزرياب وتراً خامساً لها أدّت إلى ابتكار ألة قيثارة الفلامينكو، كما يعود له اكتشاف أشهرالعطور.
إن استذكار زرياب وتخليده إنما استعادة لدور العرب التاريخي بالأندلس في التعامل معالمجتمعات المتعدّدة الثقافات، وكان ذلك الدور وراء حضارة شبه الجزيرة الإيبيرية التيامتدّ تأثيرها إلى أوروبا. ولم يكن بإمكان زرياب عمل كل هذا التأثير لولا انفتاح الأندلسوتسامحها وقبولها الآخر، وهي امتداد للحضارة العربية ، التي عرفت التعايش والشراكةالإنسانية ما لم تعرفه حضارات ذلك الزمن. ولعلّ كونفوشيوس كان على حق حين اعتبرالموسيقى مرآة حضارة الشعوب. فما أحوجنا اليوم إلى الموسيقى لتكون أحد روافدناللعلاقات الإنسانية؟