الورقة المختومة

الورقة المختومة

الجزء الخامس

 

د. احمد مشتت || كاتب عراقي

 

سأسرد هنا مارواه لي د.سلام عن اعتقال اخيه عماد من قبل المخابرات في يوم ٢٥ تشرين الثاني من عام ١٩٩٤ ونحن في بار قديم في لندن نلتقي للمرة الاولى بعد ٢٠ عاما من مغامرة الفرار الاولى.
سلام وهو يروي لي الحكاية بدا لي وكأنه مازال يجلس مرتعداً من القلق والخوف في محل خالي للازياء في بغداد الجديدة في ذلك اليوم، نفس الوجه المحاصر بالظنون والاسئلة التي دون اجابات وحركة اليدين التي قامت بمهمة شرح تفاصيل القصة على اتم وجه.
كنت ستفهم تلك التفاصيل المخيفة بمجرد متابعة يديه دون الحاجة للاصغاء الى صوته.
كانت يد سلام تسحب ذلك اليوم الصعب من تاريخ رُكِنَ في ذاكرة مشلولة لتعيد له الحياة.
استعدتُ وانا اصغي اليه و اراقبه حركة الشارع في بغداد الجديدة وتلك الفتاة بالثوب الاصفر امام بناية البريد البيضاء بانتظار موعدها المتاخر، وصخب الشباب امام مطعم گص النبع.

كانت الاضاءة الخافتة في البار والبرد الذي سجل حضوره على النوافذ والعدد القليل من الرواد ، كل هذا شكل منصة مناسبة للاعتراف.
كان عماد عسكري متطوع في اختصاص تقنية الطائرات ولديه عقد لمدة ٢٥ عاما مع القوة الجوية.
عماد جزء من حلقة الاصدقاء الاربعة التي ربطتنا هو، سلام، أنا واخي محمود. رغم الفارق في السن بيننا لكن تاريخا مشتركا من المسرات والالام جمعنا في مواجهة عزلة الحصار وظلام تلك الايام وكآبتها.
حين تطوع عماد في الجيش كان يظن ان العراق انتهى من حروبه وانه سيحقق حلم حياته بعد ان تنتهي فترة عقده ليؤسس عملاً خاصاً بتصليح السيارات بعد ان يراكم خبرته في تقنية المكائن.
لكن حمى الفرار من بلد الحروب التي لاتنتهي مسته بجنونها.
و قرر في لحظة مجنونة ان يغادر العراق. لم يناقش هذا الامر مع سلام ولا مع ايٍ من افراد العائلة. الشخص الوحيد الذي كان يعرف بالامر صديقه الاقرب خليل. كانا يعملان سوية في نفس القاعدة الجوية و يسكران سوية.
عماد استطاع الحصول على اوراق التجنيد الكفيلة بتسفير صدام حسين لو اراد الفرار من جحيم العراق.
ولكنه وهو في دائرة الجوازات واثق الخطوة يمشي ملكاً وامام الشباك الاول بالتحديد وضع رجلا مخابرات بملابس مدنية ايديهم الغليظة والقادرة على كتفيه من الخلف وكان الامر واضحاً
حتى ان احدهم اوجز عماد بلغة تليق بالمخابرات
( تعال ويانا- خائن).
تم هذا المشهد امام جمع من المطالبين بحرية السفر وفي جيوبهم جميعا اوراقا مختومة لاغبار عليها في دائرة الجوازات.
اقتيد عماد في سيارة لاندكروز بيضاء
والقي الى الخلف كما يلقى كيس زبالة في حاوية القمامة.
عماد كان مصدوماً. كيف فشلت خطته بالهروب؟ كان قد دفع اضعاف المبلغ الذي نزفته أنا لدكتور عادل طبيب التجنيد بسبب تعقيدات وضعه العسكري.
وكلمة خائن التي تبرع بها رجل المخابرات امتدت حول عنقه كحبل مشنقة.
وهو يحاول التفكير بقصة للخروج من هذا المأزق العظيم وفي لحظة تفكير نادرة مرت عليه وهو غاطس في عرق الرعب، تذكر عماد انه يحتفظ في جيب سترته بورقة فيها ارقام هواتف المستشفى التي يعمل فيها سلام ورقم هاتفي ايضا واسم المستشفى مكتوب بخط واضح
وحتى رقم محل ازياء هاشم العائد الى خالي كانت هناك ارقام اخرى ايضا.
وحتى يقلل عماد من عدد الصفعات والركلات التي ستستجوبه عن اصحاب هذه الارقام دس الورقة بعد ان دعكها في فمه وبعد ان خفض راسه متظاهرا بالغثيان.
لاك عماد ورقة الاسرار وابتلعها وهو في خلفية سيارة المخابرات. ولو كان لديه حبة سم قاتل لما تردد في ابتلاعها ايضاً.
ورغم انه كان معصوب العينين منذ بدء رحلة العذاب تلك الا أنه كان يرى شريط حياته القصير يمضي امامه الى نهاية معروفة وقريبة جدا
بقايا الورقة وطعم الحبر فيها كانا الدلالة الوحيدة على انه مازال حياً.
توقف عن الاصغاء والشم وغادرت احاسيسه منطقة الخوف وجمد جسده رغم حمى القلق التي جعلت الفضاء المختنق حوله في سيارة اللاندكروز جحيما ارضياً.

 

(Visited 2 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *