د. علي محسن التميمي
من بين العناوين التي شدتني في معرض بغداد الدولي الدورة الاخيرة، والذي وفقت لزيارته ثلاثة مرات هو كتاب “اللادولة“ للدكتور فالح عبد الجبار عالم الاجتماع العراقي، وصاحب كتاب العمامة والافندي، ومجموعة مؤلفات أخرى تهتم بعلم الاجتماع والسياسة.
يتحدث المؤلف عن الواقع العراقي الاجتماعي والسياسي بأدق تفاصيله، وخصوصًا بعد عام 2003، مع ذكر مُقدمات اللادولة والتي بدأت –حسب رأي المؤلف- من عام 1991 إلى عام 2003، وهي مدة الحصار والعقوبات الاقتصادية، والتي جاءت بسبب تصرفات الطاغية، الذي يصف حكمهُ “بالتوتاليتارية القرابية” والتي ساهمت بتمزيق نسيج الأمة.
الكتاب عبارة عن مجموعة أبحاث، كُتبت بفترات مُتفرقة، تم تحريرها وترجمتها من قبل الدكتور حسن ناظم، والدكتور علي حاكم صالح،بشكل منظم ورائع، تحدثت الابحاث الأولى عن نظام البعث، والعقوبات التي فُرضت على الشعب،وعقيدة بوش الأب تجاه العراق.
أما باقي الابحاث؛ فقد أرخ المؤلف بشكل دقيق لكل القضايا العراقية من بعد عام 2003 إلى عام 2009، فكانت البداية عن الاحتلال الامريكي وخطواته التي يصف الكثير منها بالحماقات، لأن الولايات المتحدة الإمريكة – حسب رأي المؤلف – لم تستطيع ان تفهم طبائع النظام التوتاليتاري القديم، ولا كان لديها تصور كامل عن تعقيدات المرحلة الانتقالية، ثم يتطرق المؤلف الى مجلس الحكم الانتقالي وما تلاه من مراحل سياسية وامنية وعسكرية واجتماعية، إلى عام 2008 يجدها القارئ في اجزاء الكتاب السبعة وفصوله الثمان والعشرين التي حللها المؤلف بشكل علمي مهني نقدي شُجاع بذل المؤلف جهد كبيراً، بحيث يشُدك الفصل الذي تقرأهُ إلى الفصل الذي يليه بأسلوب سردي نقدي تحليلي، وأنصح جيل الشباب العشريني والثلاثيني بقراءته، لأنه يؤرخ لمرحلة من أهم مراحلة تاريخ العراق والتي عايشناها بمرارة.
ويطرح الباحث موضوعة السيادة بشكل أكاديمي مُستشهدًا بآراء “جان بودان” و “ماكس فيبر” وكذلك آراء أستاذه الدكتور “بول هيرست“، ومن ثم يحدد الباحث خمسة أوجه كبرى لسيادة الدولة الحديثة، وهي امتلاك مجال وطني،والسيطرة على الموارد، والسيطرة على الجهاز الاداري، وامتلاك جهاز قانوني، وتمثيل المجتمع الوطني تجاه المجتمع الدولي، وأخيرًا السيطرة على وسائل العنف الشرعية.
وبعد أسلوبه التحليلي الممتع لفصول الكتاب يخلص الباحث – بنظرة تشاؤمية – إلى استحالة اكتمال عملية التحول الديمقراطي في العراق، نظراً لانعدام البنى التحتية للديمقراطية، من اقتصاد السوق والمؤسسات الوسيطة، والطبقات الوسطى،وديمقراطية النفط يعدها نقيض للريعية، وكذلك لانعدام الثقافة الديمقراطية، وأخيرًا قصر عمر مؤسسات الدولة العراقية، وكل هذه القضايا تحتاج – حسب رأي الباحث – إلى عشرات السنين أو أكثر، لنصل بعدها إلى عملية التحول الديمقراطي ليتم تحقيق الدولة.
ومن باب قبول الرأي والرأي الآخر والقبول بالنقد البناء – وهو ليس نقدًا بقدر كونه تصحيح لمعلومات – سجلنا عدة ملاحظات على كتاب “اللادولة“ للباحث الدكتور “فالح عبدالجبار“ فيما يخص التيار الصدري وقائدهُ الزعيم العراقي السيد مقتدى الصدر، والتي أستغربنا من ذكرها بهذه الكيفية والطريقة من قبل باحث وعالم اجتماع كبير، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر:
والحقيقة إن التيار الصدري ينسب إلى فكر الشهيد محمد باقر الصدر الأول،والشهيد محمد محمدصادق الصدر الثاني،وهو للثاني أقرب بلحاظ سعة مقلدي السيد الشهيد محمد محمدصادق الصدر (قدس) من النخب والمثقفين والعوام داخل وخارج العراق، مع العلم أن الشهيدين الصدرين يكمل أحدهما الآخر، وهما من مدرسة أصولية وفكرية واحدة، فلو بحث الراحل في طبيعة وتوجهات أتباع التيار الصدري؛ لفهم نسبتهم لمن، وبمن تأثروا أكثر.
وهذا الكلام غير صحيح اطلاقًا، وفيه تجني كبير، فلو تابع الباحث الأحداث التي رافقت ظهور الصدر الثاني، وقرأ تراث الصدر الثاني ومؤلفاته، واستمع إلى اللقاءات الصوتية، وخطب الجمعة، لعلم وتيقن أن الصدر الثاني قاد ثورة إصلاحية فكرية ضد النظام الذي يصفه الباحث بالتوتاليتاري التسلطي القمعي الدكتاتوري، فالسيد الصدر الثاني حيّد اللانظام السابق، وقاد مشروعه الاصلاحي بطريقة ذكية جدًا، لكن لأسباب داخلية وخارجية –لسنا بصددها الآن- تم اغتيال الصدر الثاني ونجليه، فكيف يتم اغتيال من تم اختياره من قبل القاتل نفسه!؟ بل إن الاغتيال وتصفية قيادات مشروع الصدر،واعتقال أنصاره ومريديه دليل على نجاح السيد الصدر الثاني في ثورته التي أقضت مضاجع اللانظام الدكتاتوري، وكان بمثابة المسمار الذي دق في نعش الطاغية وحزبه الشوفيني، ثم إنهاء فترة حكمه الدموي.
في الحقيقة إن هذا النص لباحث وعالم كبير وقامة علمية كدكتور فالح عبد الجبار يثير الاستغراب!!، ولا نعرف سبب ذكرهوتدخله بقضايا عائليه بحته “عماته“!! والدته!!وما علاقة المخالفة أو الموافقة لسياسة المعارضة التي اتبعها السيد مقتدى الصدر للعمات أو الوالدة (حفظهن الله)؟ وهل يذكر لنا الباحث أمثلة عن التطرق لمثل هذا الأمر العائلي لزعماء وقادة دينيين وسياسيين آخرين؟!
ولا أعلم حقيقة كيف قيم الباحث هذا التقييم المجحف بحق حركة الصدر، فحركة السيد مقتدى الصدر هي امتداد فعلي وواقعي لحركة السيد الصدر الثاني (قدس)،يوم وقف الصدريين بوجه حزب البعث، واقاموا صلوات الجمعة تحت فوهات البنادق في حياة السيد الصدر الثاني، واستعدوا للمشي سيرًاعلى الاقدام لزيارة الامام الحسين (عليه السلام)، ولولا الأمر الولائي للصدر الثاني في حينها بالمنع – نتيجة منع حكومة البعث – لانطلقت المسيرة المليونية، فالصدريون هم أول من هتف خلف قيادته بهتافات مطلبية تتحدى اللانظام السابق، ورغم الاعتقالات والاعدامات التي طالت مقلدي السيد الصدر الثاني، إلا أن حركة الصدر كانت بأتساع كبير جدًا.
أما بعد اغتيال السيد الصدر الثاني ” قدس سره” فكانت هُنالك مظاهرتين بل انتفاضتين – جامع الحكمة وجامع المحسن – قمعتهما حكومة البعث بالحديد والنار وسقط المئات من الشهداء والجرحى وتم اعتقال الالاف، وقد كانت هُنالك انتفاضة في محافظة البصرة والناصرية ايضًا، وكذلك ساعة الصفر التي قد تم تأجيلها لأسباب معينة، بالإضافة إلى الوقوف بوجه ضباط الأمن والبعثيين الكبار في حينها.
أفلا تعتبر هذه المواقف والاحداث الثورية تحدي لنظام البعث المجرم والدكتاتوري؟ أم أن الباحث لا يعلم بها ولم تصله نتيجة اقامته خارج العراق؟
أما المكون الرابع – حسب رأي الباحث- فقد تطور بعد عام 2003 ومن جملته البعثيون والفدائيون!!! ولنا على هذا الادعاء عدة مُلاحظات:
وتعليقًا على ما كتبهُ الباحث نؤكد من كتبناه في النقطة الثانية، فلو قرأ الباحث مؤلفات السيد الصدر الثاني، وتابع خطبه، وما هي نوعية الشعارات التي كان يرددها السيد الشهيد الصدر في مسجد الكوفة المعظم، وماهو نوع الخطاب الذي كان يتبناه تجاه الثالوث المشؤوم (إمريكا – بريطانيا – إسرائيل) –حسب تعبير السيد الشهيد – فكان شعار “ كلا كلا إمريكا“ و “كلا كلا استعمار“، وغيرها من الشعارات الثورية والتعبوية، التي كانت عبارة عن دورات تدريبية تحشيدية ثورية ضد أي غزو واحتلال مستقبلي للعراق، فمن ردد هذهالشعارات الثورية في التسعينيات ومن غير وجود أي محتل فلا يمكن أن يبقى مكتوف الأيدي بوجود المحتل إطلاقًا.
ومن ثم لو أراد السيد مقتدى الصدر الاستيلاء على السلطة؛ لقبل بعرض قوات الاحتلال التي طلبت منه أن يكون رئيسًا من غير حرب أو مقاومة.
الأمر الآخر: لم ينظر السيد مقتدى الصدر، ولا تياره، لحكم ثيوقراطي اطلاقًا، وأتحدى من يثبت غير ذلك، نعم السيد الشهيد الصدر الثاني يؤمن بولاية الفقيه العامة، ونظر لها في بعض مؤلفاته كمجتهد وكعالم، لكن لم تطرح من قبل السيد مقتدى الصدر، ولا من أنصاره لان منظِّر ولاية الفقيه–السيد الصدر الثاني- قد أستشهد وكان سماحته (قدس) عمودها وجوهرها في حينها، ولعدم تحقق الاسباب الموضوعية والواقعية في العراق في ظل النظام الديمقراطي والدستور المدني والتعددية القومية والمذهبية والحزبية في العراق يحول دون تطبيق نظرية ولاية الفقيه.
ولا أعرف كيف أقتنع الباحث بهذه المعلومة غير الصحيحة، فثقافة وعقيدة الصدريين بالمهدي (عليه السلام) تفوق أية جهة دينية أخرى، لما يملكون من معلومات وفكر تركه لهم السيد الشهيد الصدر (قدس) عبر موسوعة الامام المهدي (عليه السلام)، فهم يعلمون علم اليقين بطلان هذه الادعاءات، فالإمام المهدي (عليه السلام) غير معروف شخصًا حاليًا، ولا يمكن معرفة مكانه -حسب العقيدة الإمامية– فكيف تقوم قوات الاحتلال باختطافه؟؟
هذه جملة من الملاحظات التي أحببت أن أذكرها فيما يخص التيار الصدري وقائده، وما أوردناه هو ردود علمية واقعية وليس ادعاءات عاطفية، أما كتاب “اللادولة“ فهو كتاب قيم، جمع بين السياسة والاجتماع في تحليل الواقعي العراقي، أنصح الجميع بالاطلاع على الجواهر الموجودة فيه، مع مراعاة ما ذكرناه في النقاط الثمانية الآنفة الذكر.
لروح الراحل الدكتور فالح عبد الجبار الطمأنينة والسلام