نعمان الغزي / لندن
في كل دورة انتخابية عراقية، تتجدد ذات الجدلية القديمة المشاركة أم المقاطعة؟ وكأننا أمام معادلة وطنية عالقة بين يأسٍ من التغيير وأملٍ لا يريد أن يموت. لكنّ السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح اليوم هو: هل المقاطعة موقف وطني نزيه، أم فعل سياسي يفتح الباب أمام استمرار الفساد؟
المقاطعة في أصلها حق دستوري، ولا يمكن لأحد أن يجرد المواطن من حقه في رفض المشاركة. لكنها تتحول من حق إلى أداة هدم حين تُستَغل للتحريض والتأليب وزرع روح الإحباط بين الناس، وكأن التغيير مستحيل، وكأن صناديق الاقتراع مجرد ديكور سياسي لا جدوى منه.
في هذه الحالة، تتحول المقاطعة إلى موقف سلبي خطير، يُضعف المشاركة الشعبية ويمنح القوى التقليدية والفاسدة فرصةً ذهبية للبقاء في المشهد دون منافسة حقيقية.
يُبرّر بعض الداعين إلى المقاطعة موقفهم بأن الانتخابات مسرحية، وأن النتائج محسومة مسبقاً. لكنّ هذه الرواية، رغم ما فيها من واقعية، تُخفي جانباً من الحقيقة الفاسد لا يُقصى بالفراغ، بل يُهزم بالمشاركة الواعية. حين تُفرغ الساحة من المنافسين النزيهين، فالمفسد لن يُقصى، بل سيُزكّى تلقائياً.
يعتقد البعض أن المقاطعة هي حرب على الفاسدين ، لكنها في الواقع حرب غير معلنة على فكرة التغيير نفسها. من يقاطع لا يحارب الفساد، بل يترك الميدان خالياً لمن يجيدون اللعب في الظل، ولمن يتقنون فنون السيطرة على مقاعد البرلمان وأروقة القرار.
ثمّة سؤال مؤلم يجب أن يُطرح بصراحة هل المقاطعون أنزه من المشاركين؟
الجواب ليس دائماً نعم. النزاهة لا تُقاس بالموقف من الانتخابات، بل بالفعل السياسي الحقيقي. فمن يريد محاربة الفساد، عليه أن يخوض المعركة داخل الميدان، لا من خارجه. المشاركة لا تعني الرضا، بل هي شكل من أشكال المقاومة السلمية، وطريق لإحداث التغيير من الداخل.
نعم، لا أحد يُنزه الطبقة السياسية في العراق، فكل دورة تحمل خليطاً من الصالح والطالح. لكنّ الإرادة الشعبية تبقى الأساس في تصحيح المسار، ومتى ما قرر المواطن أن صوته لا قيمة له، فقد تخلّى عن أهم سلاح يمتلكه ضد منظومة الفساد.
وهنا لا يمكن تجاهل أن التيار الصدري كان من أبرز القوى التي قادت حملة الحث على المقاطعة. وبالرغم من أن الحق في المقاطعة مكفول دستورياً، فإن التحريض الجماعي والمنظم على المقاطعة من قبل تيار سياسي واسع النفوذ يضعنا أمام إشكالية دستورية وسياسية في آنٍ واحد.
فالدستور، في مادته (38)، يمنح حرية التعبير والرأي، لكنّه في الوقت نفسه يفترض المسؤولية الوطنية في الحفاظ على استقرار النظام الديمقراطي.
وحين تتحول الدعوة إلى المقاطعة من موقف فردي إلى قرار جماعي مؤثر يصدر عن قوى سياسية كبيرة، فإنها تُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها الشعبي وتُضعف شرعية التمثيل السياسي.
بمعنى آخر، الحق في المقاطعة لا يعني حقّ تعطيل الديمقراطية.
إنّ من يريد عراقاً أفضل، لا يكتفي بالشكوى من فساد الآخرين، بل يقدّم بديلاً، يشارك، يصوّت، يناقش، ويحاسب.
فالسياسة لا تُدار بالصمت ولا بالانسحاب، بل بالحضور، بالوعي، وبالإصرار على انتزاع التمثيل الشرعي من يد من لا يستحقه.
