محمد الكلابي
ثمة نوع من الحب لا يُمنح إلا بعد الموت، لا لأن الراحل تغير، بل لأننا لم نعد مضطرين لسماع صوته. زياد الرحباني لم يُحتفَ به لأنه مات، بل لأنه اختفى.
فموته لم يُحرك الحنين بقدر ما عطّل الإحراج. لم يكن حضوره مريحاً، ولم يكن صمته ممكناً. فلما غاب، بدأنا نحبه كما نحب كل من توقف عن إزعاجنا حب المطمئن، لا حب المُنصت. ومن هنا ، يبدو هذا ( الحزن الجماعي ) أقرب إلى تواطؤ شعوري… لا إلى وفاء متأخر.
حين مات زياد الرحباني، انفجرت مشاعر الحب، وامتلأت الشاشات بمسرحياته، والتعليقات بنوستالجيا مشبوهة، والصفحات بنُبذ من حياته… كأننا كنا ننتظر موته كي نتذكره. في لحظة واحدة، أصبح زياد ابن فيروز النقيّ، العبقري الذي ظلمته السياسة، الحبيب الذي لم نفهمه. لكن هذا الحزن الكثيف، في عمقه، لا يبدو صادقاً تماماً. بل يُشبه تطهيراً نفسياً جماعياً. نوعاً من التبرئة المتأخرة، لا للراحل، بل للذين لم يتحملوا وجوده وهو حيّ.
زياد لم يكن محبوباً على هذا النحو حين كان يمشي بينهم. كان عبئاً في نظر كثيرين. اعتبروه صاخباً غامضاً، لا يمكن تصنيفه، ولا استيعابه، ولا استثماره. رأى فيه البعض فوضى لا رؤية، وسخرية لا حكمة، وانحيازاً سياسياً مزعجاً. اتُّهم – من الخارج لا من الحقيقة – بالجنون بالإلحاد، بالتشيّع السياسي، بالتخلي عن صوت القضية، بالتهكم على الموروث وحتى بالإساءة إلى إرث الرحابنة. تلك كانت صورة مُشوهة له، صنعها الخوف من ذكائه، والنفور من تعقيده، أكثر مما صنعها نقد موضوعي. لكنه، رغم كل شيء، لم يساوم. ظل في موقعه، يضحك ليُحرج، لا ليُرضي. يسخر من الجميع، لا مع أحد. لم يكن نغمة تشبهنا، بل مرآة تُظهر كم نحن نشاز.
وحين غاب، بدأت الطقوس، استُدعيت نسخة منقحة من زياد، أنعم وأقل تهديداً. زياد الذي يناسب الحنين، لا زياد الذي يُفكك ويقلق. تم تعقيمه رمزياً، تخفيف فوضاه، تنميق جُمله، وإعادة تدوير أعماله بما يتناسب مع ذوق الجمهور الذي خافه حيّاً واحتفى به ميتاً. لقد أُفرغ من محتواه، وتمت أرشفته بشكل مريح. صار أيقونة، لأنه لم يعد يُربك أحداً. وكأننا – دون أن نشعر – فعلنا ما كان يخشاه نيتشه أخذنا “الديونيسي”، الفوضوي، الصارخ، وغلفناه بغلاف “أبولوني” هادئ، مُضيء، يمكن تعليقه في الصالونات. هكذا نفعل مع كل ما يخيفنا لا نُحاربه، بل نُجمله حتى يتوقف عن الصراخ. نحول التمرد إلى زخرفة. نحول الألم إلى مقطع موسيقي. نحول الانفجار إلى لحظة استذكار.
لكن هذا الجمال المصنوع لا يعبر عن الراحل، بل عن حاجتنا إلى ترويضه. وما نسميه حنيناً هنا… ليس حباً، بل فعل دفاع نفسي. الجمهور الذي لم يحتمله، والذي لم يدافع عنه حين كان يحتاج الصوت، الآن يحزن. لماذا؟ لأن الحزن لا يكلف شيئاً. لا يطلب موقفاً، ولا انحيازاً، ولا شجاعة. هو مجرد استعراض ندم، لا اعتراف به. حين نبكي من خذلناه، فإننا لا نعبر عن محبتنا، بل نحاول التهرب من ذنب نعرف أنه حقيقي.
زياد لم يكن بحاجة للرثاء، بل للاحتضان وهو يتآكل من الداخل. لم يكن بحاجة إلى دموع، بل إلى مجتمع يتحمل فوضى السؤال. لكنه لم يجد ذلك. وجد جمهوراً يريده نسخة من الرحابنة، لا امتداداً ناقداً لهم. يريدونه أن يعزف، لا أن يسأل. أن يضحكهم، لا أن يوقظهم. فلما لم يُطِع، صُنف كحالة خارجة. ثم، حين مات، أخرجوا صوره، وقالوا كم كنا نحبه. لكن الحقيقة؟ كثيرون لم يحبوه. كثيرون ارتاحوا من وجوده، ثم بكوه.
ربما ما أطلقناه بعده لم يكن حنيناً…بل دليلاً على أننا كجماعات، لا نحتمل المفكرين إلا بعد أن يصمتوا.
ربما لم نكن نحب زياد… كنا نحب الصمت الذي يعم بعد رحيله.
