فلاح الكلابي
ما حدث في ملعب عمّان لم يكن مستغرباً لمن يعرف المزاج السياسي والاجتماعي في بعض الدول المجاورة. الهتافات المسيئة ضد العراق والعراقيين، التي صدرت عن جماهير أردنية وفلسطينية، لم تكن مجرد انفلات رياضي، بل تعبير واضح عن عقدة تجاه العراق، تخرج إلى العلن كلما سنحت الفرصة.
من يقرأ المشهد بعمق، يدرك أن هذه الإساءة ليست منعزلة عن تاريخ من التناقضات والازدواجية في التعامل مع العراق. هناك من لا يستطيع التعايش مع فكرة أن العراق، رغم كل ما مرّ به من حروب وحصار ودمار، لا يزال واقفاً، وأن تاريخه لا يُمحى بهتاف، وأن كرامته لا تُمس بإساءة.
ما يُحزن أكثر من الهتافات، هو الصمت الرسمي العراقي تجاهها. وكأن الكرامة الوطنية لم تعد من مسؤوليات الدولة. حين تكررت الإهانات، لم نسمع استدعاء سفير، ولا احتجاجاً دبلوماسياً، ولا حتى موقفاً واضحاً. والنتيجة؟ تتكرس الصورة بأن العراق ساحة مباحة للشتائم، دون تبعات.
اللافت أن بعض من يرفعون شعارات القومية اليوم، ويهتفون بأسماء قادة راحلين، هم أنفسهم من تخلوا عنهم في اللحظة الحرجة. هم من استقبلوا المنشقين، وساوموا على أموال العراق المسروقة، وتعاونوا مع قوى أجنبية دخلت أرضه ودمرت مدنه.
التاريخ ليس مجرد رواية تُروى حسب الطلب. من خان صدام بالأمس لا يحق له التباكي عليه اليوم. ومن فتح حدوده للدبابات الأمريكية في 2003، لا يحق له أن يعلو صوته باسم العروبة. فالدبابات التي قصفت بغداد لم تأتِ من البحر، بل عبرت من أراضٍ قريبة. والحدود التي استُبيحت كانت مفتوحة، لا مغلقة.
والأكثر غرابة أن من يشتم العراقيين اليوم بسبب انتمائهم المذهبي، ينسى أنه يعيش من نفطهم. الجنوب العراقي الذي يُساء إليه إعلامياً وشعبياً، هو نفسه من يموّل الكهرباء والبنزين والسلع بأسعار مدعومة، ضمن اتفاقات يعرفها الجميع. فهل من المنطق أن يُهان مَن يطعمك؟ وهل يُحتقر من يمول استقرارك؟
أما الحديث عن إسرائيل، فلا يمكن فصله عن هذا المشهد. فمن فجّر نفسه في شوارع بغداد، لماذا لم يتجه إلى تل أبيب؟ ومن صنع خطاب الكراهية داخل العالم العربي، لماذا لم يوجهه نحو الاحتلال؟ الغريب أن البوصلة كثيراً ما تُحرّف، ويصبح العدو هو من وقف إلى جانبهم حين لم يكن لهم نصير، بينما يبقى المحتل في منأى عن أي نقد.
ولا ننسى موقف الأردن في 2002 بعد خسارته أمام العراق في نهائي بطولة غرب آسيا. صدر حينها قرار رسمي بمنع دخول العراقيين، حتى للحالات الإنسانية، بذريعة “هتافات مسيئة للمملكة”. السؤال المشروع اليوم: لماذا لا نجد في حكومتنا من يملك شجاعة القرار نفسه حين يُهان العراقيون؟ لماذا نظل نعتذر ونبرر ونراعي “العلاقات” حتى على حساب الكرامة؟
هذه ليست دعوة للقطيعة، ولا تحريضًا على الشعوب. بل نداء واضح للدولة العراقية: لا تتهاونوا في حق بلدكم. لا تجعلوا الكرامة ورقة مهملة على طاولة السياسة. العراق ليس ضعيفاً، لكنه بحاجة لمن يدافع عنه بصوت وقرار.
الشعب العراقي تعب من الصمت، ومن التغاضي، ومن تكرار الإهانات بلا رد. آن الأوان أن نرسم حدود الاحترام، ونُفهم الجميع أن العراق ليس ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، ولا حائطًا للتفريغ الطائفي، ولا ضيفًا دائماً على مائدة أحد.
العراق دولة لها تاريخ، وشعب له كرامة. ومن لا يحترمه، فعليه على الأقل أن يصمت.