مظفريات
45
يكتبها
محمد السيد محسن
——-
كثيرا ما يربط مظفر النواب الوضع السياسي العربي مع البغاء , ويهرب منه نحو الخمارة , أو الخمر بشكل عام , وهذه تكاد تمثل سمة الثوريين الذين يعيشون حياتهم القصيرة لأنهم سيقعون ضحية استهداف اصحاب السلطة دائما , فتجدهم يلجأون الى الخمر والنساء , بيد ان الشعر عند مظفر النواب يربط القصيدة بمقاصدها وبشكل دائم ما بين القرائن الثلاث , السياسة , الخمر , البغاء.
ولا يربط مظفر النواب النساء بشكل عام مع الوضع السياسي , بل انه يمعن في التأكيد على البغية التي تنتجها الخمارة احيانا , أو بيوت الدعارة .
في قصيدة “أحلام فراشة التوت” يتحدث عن بغي كبر بها العمر ولم تستطع قادرة على اجتذاب الزبائن , ولم تتحول الى قوادة , فبقيت على سكة تراجع الجمال والجسد والإغراء. لكنه سرعان ما يربط هذا الوضع مع الوضع السياسي , بل انه يحذر تلك البغي التي لم يعد احد يهتم بها أو يلتفت اليها , يحذرها من رخص عيون السياسيين ورخص خياراتهم .
أشتهي الشمسَ
قالت على الفورِ سُرّتُها
أشتهي فَخِذينِ
تثاءبَ مَطاطُها
أشتهي
وتَمطّى المذيعُ
على خبرٍ عائِمٍ للسباحَةِ
نِيرانُنا أسكتَت نارَهُم
نحنُ ضِدَّ صواريخَنا
ونُحَيّي صواريخَهُم
صعدَ المَغَصُ المَزُّ للرأس
خاتِمةُ الشهداءِ
نُصافحُ خاتِمةُ الإحتلالِ
إحتلالٌ بكلِّ انحناء
رأت رجلاً
في ملابِسِها الداخلِيةِ
نامي فنومُكِ
أوعى مِن الوضعِ سيدتي
وجهازُ تناسُلِهم
يحرسِ الوطنِ العربيِّ الكبير
إطمئِني وظهرُكِ نحو الجِدار
يلوطونَ أنفسَهُم
إحذري أن تَستديري
وإن شئتِ سيدتي
مِثلما تَرغبين
فعالمُنا كلهُ يستدير.
——-
وفي قصيدة “قراءة في دفتر المطر” .. يهرب المناضل من الاحباط والتخاذل صوب اقرب خمارة وهناك يلتقي ببغي كي يشتكي لها احباطه , وعدم قدرة قادته على ان يقفوا وقفة الرجال , ليستأنفوا بطولتهم الفائتة فيقول لها :
يا امرأة الليل .. أنا رجل حاربت بجيش مهزوم
ما كنت أحب الليل بدون نجوم
وأخيرا صافح قادتنا الأعداء ونحن نحارب
ورأيناهم ناموا في الجيش الآخر والجيش يحارب
والآن سأبحث عن مبغي
يا شباك الزيتونة أبحث عن مبغى
أبحث عن طين
يا زهرة بيتي يا وطني
أأظل هنا حزناً مبعد ؟
أأظل على خرسي تابوت قصاصات مجهد ؟
لا أعرف أين سيتركني الجزر
لا أعرف كيف يمر الإنسان بدرب الدمع
لا أعرف أيأس
فتواطأت مع الأيام
—-
هنا يتشكى الثوري من خذلان الوضع السياسي له , ونكوص اصحاب القرار , يقرر ان يهرب نحو المبغى , ليبث همومه الى بغي بعد ان يستجمع جرأته في البوح سكرانا , ويقصد مظفر ان يربط حالة الوضع العربي مع حالات البغي , لإيصال رسالة ان احط ما يمكن ان تعيشه المرأة ان تتاجر بجسدها , فتصبح بغيا , يتناهشها الرجال الغرباء , ومن خلال هذا الوصف “المقصود” يعكس صورة الوضع السياسي حيث يتنازل القادة عن مبادئهم , كما تتنازل المرأة عن شرفها.
في قصيدة “في الحانة القديمة” ينتقل مظفر مباشرة من وصف الوضع العربي الحالي , الى وصف بغي في حانة , ليعكس صورتين لمقصد واحد :
هل كانوا لوطيين بمحض إرادتهم كلقاءات القمة؟
هل كانت بغي ليسَ لها أحَدُ
في هذي الدنيا الرثة؟
لو كنت هنا
لخبأت بسترتك التاريخيٌة رغبتها
وهمست بدفء في رئتيها الباردتين
ايقتلك البرد؟
أنا يقتلني نصف الدفء ونصف الموقف أكثر
سيدتي … نحن بغايا مثلك
يزني القهر بنا
—–
نخبك نخبك لم يتلوث منك سوى اللحم الفاني
فالبعض يبيع اليابس والاخضر
ويدافع عن كل قضايا الكون ويهرب من وجه قضيته
سأبول عليه وأسكر
ثم تبولين عليه … ونسكر
——
وفي قصيدة “البغي التي تركت المهنة والذئاب” يصور مظفر حالة البغي التي تركت مهنتها , ويقارن بينها وبين سياسيين لم يستطيعوا ان يطوروا مهاراتهم الثورية , فهزموا انفسهم قبل ان يهزمهم العدو , بينما تلك البغي حاولت ان تطور امكانياتها كي تستمر بالخدمة.
حينما انهزمت
كل أركان قواتها
والصغيرات طَوَّرن
أَسلحة الليل
لَمَّت بقايا كرامة أفخاذها
والمعاصي الحزينة
وانسحبت بهدوء
واستسلمت للزمن
رقَدَت بهدوء
وقد صَبَغَت
زُرقة اليأس أجفانها
تتذكر أشياء مخجلة
من زبائنها
—
متى السائرون
بعهر هزائمهم ينسحبون
ببعض كرامة أدرانهم
كالبغايا اللواتي
مضى وقتهن
ولا يدَّعون دعارتهم
خدمة للوطن
—
وفي قصيدة “أوهام ديك الصباح ” يختزل مظفر النواب حالة الهروب الى الخمر لأن العلاقة بين السجين والسجان اختلت مع مرور الايام , وكثرة التخاذل العربي امام القضايا المصيرية , حيث ان السجانين كانوا يحملون وعي السجين , لأن الإختلاف كان فكريا , لا وجود للإزاحة المراهقة في نظام التنافس الحزبي, بيد ان ما جرى بعد ذلك ان التخاذل والاحتياز على السلطة جعل من صاحب القرار غولا ينهش ويأكل كل من يراه من دون جنسه , وتحولت المعارضة الى لعبة تصفيات واذلال :
وصحونا فإذا ذاك شراب
وإذا الدنيا على حالتها ..
والندامى انصرفوا
ودويك ناقص الخبرة
قد حل محل الديك في ساحتها
—
أيها الساقي أدر قارورة السم
فذا يوم حزين
إنني أبكي على خد زماني
أيها الساقي
وقد يبكي الزمان
آه لم تبق لي الأيام
إلا كوز وهم وأباضير دخان
ودويكا من خطايا الصوت
إن صاح توحشت حياتي والمكان
سلموه حانة الشوق
فودعت قنانيها .. وصافحت الدنان
وبأذني صاح ديك الأمس
فاخضلت عيوني بالأذان
—-
تلك هي قضية الوضع السياسي عند مظفر النواب وربطه متقصدا دائما بالعهر والهروب منه نحو الخمر , والاستهانة بهذا الوضع المتزلف والمتخاذل بالتشكي منه الى بغي هو لا يحترمه بلا شك , لكنه يفضلها على الوضع المنهار , في مقارنة تهكمية بين السيء والأسوأ.