الحدود بين الامن والسياسة!

الحدود بين الامن والسياسة!

من دروس التجربة المريرة لشعوبنا مع الارهاب الحديث، بنسخته
التكفيرية، انه يعمل بأجندة سياسية واضحة لا لبس فيها،
بصفته اداة عنفية تخدم تكتيكيا او استراتيجيا مشاريع مشغليه.
فهذه الجماعات تضرب بقوة وعنف عندما يطلب منها ذلك.
وتختفي بسرعة ورشاقة اذا اقتضت حاجة المشغلين والممولين.
وهذه النتيجة ليست اكتشافا جديدا، بل لعلها من بديهيات المعرفة
بهذه الجماعات، ولكننا نعيد التأكيد عليها كمقدمة لهذا البحث عن
اسباب الغزوة الاخيرة ودروسها، لاحدى ساحات بغداد الشعبية.
واستهداف الفقراء وصغار الباعة في ساحة الطيران الشعبية، ليس
فيه تعقيد في التخطيط العسكري، ولا يحتاج الى دعم لوجيستي
كبير، بل الى عقل اجرامي يبيح لنفسه حق محاكمة الاخرين
وتنفيذ الاحكام بهم، باستخدام احد مرضى التعبئة السياسية
الحاقدة، التي تنطلق في الغالب من منابع الفتنة المذهبية
التكفيرية، التي تصنف الناس، ثم تجردهم من انسانيتهم،
وتحكم عليهم بالكفر، قياسا بأهل الايمان، وتجعل من القتل
فضيلة، ومن اراقة الدماء واستهداف النساء والاطفال تقربا من
المقدس الافتراضي المرتبط بالعقيدة..
عملية نفسية معقدة صارت جزءا من فلسفة تحريك الجمهور عن
بعد، التي تعتمدها منهجيات الحروب البديلة، او الحروب الناعمة.
وهي في الحقيقة ليست ناعمة بل عمليات قتل اشد قسوة وعنفا
من المدافع والطائرات والبوارج الحربية. وترجمتها الحقيقية انها
حرب خفية، أو مخالب متخفية بقفازات حرير. انها ثقافة تريد ان
تقنعنا بأننا جميعا وحوش، بعضنا قوي او بعضنا ضعيف، وعلينا
ان نعد المزيد من المخالب والانياب لكي نستحق البقاء.
ولسنا نفاضل بين انواع الحروب، ولا نميز بين درجات وحشيتها
وامتهانها لكرامة الانسان وحقه بالحياة. فكلها جرائم ونكوص
للانسان عن انسانيته، وسويته الاخلاقية، وافتئات على خالق
الكون ومانح الروح للبشر.. ولكن عالم اليوم لا تسيره القيم، بل
سياسات وثقافات، اساسها العنف والقوة والهيمنة والقهر.
وسيكولوجيا حروب التدمير الذاتي، والتفجير من الداخل، لا تصل
الى غاياتها القصوى الا بإعام مواز، يستكمل مهمة التخريب
ونشر الكراهية والاحقاد، وتعميم البيئة المرضية، لاقناع الناس
ايضا بأن الاعداء الافتراضيين قتلة، ولا حل الا بالمزيد من القتل،
ورفع درجة التوحش: الى حد القبول بالتفجير الانتحاري.
ولا اغالي اذا قلت ان كثيرين، من النخبة الثقافية الافتراضية في
عالم الاعام، باتوا يقبلون فرضية ان يقتل شاب نفسه، ليقتل
اخرين لا يعرفهم، ولا تربطه بهم صلة عداوة او تنافر او تنازع
مصالح.. يقتلهم فقط بناء لايديولوجيا التنميط الجماعي، فيتلذذ
بالقتل ليريح نفسه من الم الاحقاد التي تملكت مشاعره، مثل اي
فيروسات سرطانية مدمرة.
بل ان هؤلاء يبررون هذه الجرائم، ويقدمون لها الخلفية
السياسية والثقافية التي تزيد حالة الارباك والضبابية، المطلوبة
لتحويل الجماعات الى قطعان، بتغييب العقل والفكر والمعلومة
والرأي الحصيف.
وبسرعة خاطفة خرج المثقفون، بصفتهم محللين وخبراء الاعام
الاليكتروني، ليوزعوا الاتهامات في كل اتجاه. فقد استمعنا الى من
يتهم دولا واحزابا وقوى، قريبة وبعيدة!! وهذا نصف المشكلة،
اما نصفها الاخر ان هذه الاتهامات لا تقوم على اي معطى مادي
او دليل، او ربط منطقي في اغلبها. فقد سبق هؤلاء واستبقوا
الاجهزة الامنية المختصة، المعنية بجمع الادلة وتحديد الخيوط
المؤدية الى المتهمين وخلفياتهم الفكرية والسياسية. وهي كلها
فرضيات جائزة بالنظر الى تشابك الصراعات الاقليمية والدولية،
لكنها غير محسومة لتبرير حدث امني ارهابي بامتياز.
حالة من الهياج والاثارة تحول مهمة الاعام الى الترويج، والخبر
الى دعاية، والتنوير الى تعبئة، والتثقيف الى تحريض… والفارق
كبير بين الوجهين، بين كشف الحقيقة والمجرمين، والتعمية
وتضليل العدالة. وبين الدفاع عن الضحايا والانتصاف للدماء
البريئة، واستغلال هذه المأساة لاهداف سياسية ومصالح خاصة..
بين خدمة الوطن والمجتمع والنهوض به، والمشاركة بتدميره
لمصلحة القوى الاجنبية، التي نتهمها لفظا ونخدمها سلوكا وفعلا.
ان اكبر خدمة نقدمها للارهابيين هي رفع جريمتهم الى
مستوى العمل السياسي المبرر بالنزاعات والمصالح والصراعات
المحلية والاقليمية.. واكبر خدمة نقدمها للمتآمرين على اوطاننا
وشعوبنا هي هذا التسرع والخفة في توزيع الاتهامات، واسقاط
عقدنا السياسية والثقافية على الواقع.. لاننا في الحالتين نضعف
مناعتنا الداخلية، ونسهل مهمة الفايروسات في الفتك بنا ونهش
اعضائنا.
الارهاب مرفوض بالمطلق، ومدان بالمطلق، وليس له ما يبرره
لا في السياسة ولا في الاخاق ولا في الدين.. وهو ليس جزءا
من وسائل الصراع المشروعة حتى ان كانت سيئة ورديئة،
فالحروب كلها سيئة ورديئة ولا انسانية.
لكن الارهاب هو توحش يجب الا نقبل به ولا نضعه في زمرة
ادوات الصراع، ومن قام به مجرم لا يستحق الرحمة والبحث عن
الدوافع، ولا اهداف نبيلة له، ومن امر به وخطط له عدو، بل
هو العدو الاول والحقيقي للامة!! ولهذا فإن مهمة البحث والتحري
عن هذا العدو يجب ان تكون مهمة شريفة متقنة واخلاقية،
وليست مجرد اتهامات تفاقم التعصب، وتبرر القتل في كل اتجاه.
وبالنظر الى التجربة المرة التي كابدتها شعوب المنطقة منذ
عقود، وخصوصا في العشرية السوداء الماضية، فان هذا الاعلام
الترويجي والتهريجي ركن اساسي من اركان الحرب الناعمة، او
الحرب بالوكالة التي تروجها الامبريالية، وتتكلف عليها مليارات
الدولارات، وقد حققت لها الكثير حتى الان للاسف، ليس على
مستوى ضحاياها القتلى والجرحى في ساحات التفجير والقتل
العشوائي، بل على مستوى التشويه والعمى الذي اختطف العديد
من عقولنا ونخبنا الاعلامية والثقافية، التي اصابها المرض
وتحولت الى دمى تروج السم وتعيد انتاج الفتنة.
ولعل اغرب ما قرأته على لسان احد هؤلاء الاعلاميين، ان
سبب التفجير الارهابي هو انشغال الطبقة السياسية والاحزاب
بالانتخابات والصراعات السياسية والمصلحية!!
غريب فعا هذا التفسير! فما هي مهمة الاحزاب والقوى السياسية
اذن؟ ومن الذي سينشغل بهذا القضايا غير الاحزاب والقوى؟ بل
ما مهمة العمل السياسي غير البحث عن سبل حل المشكلات
السياسية وادارة المجتمع بالاساليب الديمقراطية السلمية؟
وهنا نصل الى بيت القصيد، وجوهر الازمة التي نعاني منها،
ليس في العراق فقط، بل في معظم مجتمعاتنا العربية
والاسامية، التي ابتليت بالهجمة الامبريالية الصهيونية على
مواردها وطاقاتها.
كثيرا ما نسمع في ادبياتنا السياسية واعلامنا المختطف، عبارة
ان امن المجتمع امن سياسي. والمقصود في ذلك في ادبياتنا
ايضا، ليسالعلاقة المبدئية بين الامن والسياسة، بل يريدون
القول إن تحقيق الامن مرهون بتوافق السياسيين، وحياة الابرياء
ترتبط بحل العقد والازمات على صعيد الحكم، او العلاقات بين
القوى الداخلية والخارجية..
وهذه المقولة تبرر جريمتين: الارهاب والتدخل الاجنبي. لانها
تجعل الارهاب احدى وسائل السياسة المشروعة، وتبيح للخارج ان
يملي شروطه الامنية، بذريعة كونه جزءا من الصراع السياسي،
الاقليمي او الدولي، على ارضنا.
وكلاهما مرفوض ونقيض الوطنية، اذ ليس هناك اي دولة او امة
حرة تقبل ان يكون امن مواطنيها رهن الصراعات، والمصالح
والامزجة والاهواء، للقوى المحلية او الاجنبية.. الامن الداخلي حق
حصري للدولة بأجهزتها المختصة والمتفرغة لهذه المهمة.
ان اي قبول بمشاركة قوى حزبية او سفارات او ضغوط اجنبية
بالامن الداخلي هو تفريط خطير بالسيادة، وبالامن وباستقرار
المجتمع والدولة.
الامن الداخلي يوازي القضاء في ضمان العدالة والسامة للشعب
بجميع اطيافه، وبصرف النظر عن المواقف والعقائد والاتجاهات
والمصالح.. وكما انه لا يجوز للقضاء ان يرتهن للصراعات الحزبية،
او الاماءات الخارجية، كي لا تفسد العدالة وتعم شريعة الغاب،
فانه يتوجب ابعاد الامن والاجهزة الامنية بشدة وبحزم عن كل
تلك التأثيرات المخلة بدورها واهدافها النبيلة.
ان ما يجب ان نتوجه اليه لكي نحافظ على البقية الباقية من
وحدتنا المجتمعية والوطنية، هو ابعاد الامن عن معتركات
السياسة. فاستقلال الامن يقدم على استقلال القضاء بالاهمية،
لان هذا الحقل يحتاج الى مختصين، كما هو حال الطب
والهندسة، لا الى محللين سياسيين، واعام متفلت من كل
الضوابط المهنية والاخلاقية.
بل ان العديد من الدول في مختلف العصور عمدت الى ابعاد
منتسبي الاجهزة الامنية عن المشاركة في العملية السياسية، او
اشراكها بذلك بشكل منفصل، ليس انتقاصا من دورها ولا حرمانا
لها من حقوقها، بل لابعادها عن كل شبهة سياسية او اهتمام
بالألاعيب والحرتقات التي تعج بها كواليس السياسة.. انها عملية
تنزيه للاجهزة الامنية، اقرارا بالدور المحوري الخطير المنوط بها
القيام به، لخدمة المجتمع وتأمين سامة حياته السياسية، وحياة
المواطنين.
للسلطات وللحكومة وللاحزاب الحق في رسم السياسات
العامة، وتحديد العقيدة الامنية والعسكرية، وتأمين الميزانيات
والتجهيزات، ووضع جدول الاولويات.. اجل هذا من مهمتهم،
ولكن الامن كاجراء عملي ميداني وكيفيات وحيثيات واساليب
عمل هو اختصاص الاجهزة الامنية ذاتها دون شريك، ودون
تدخات من اي جهة او طرف.
وهذه الدقة في رسم الحدود بين السياسي والامني، هو الخطوة
الاولى لاخراج الامن من التجاذب الحزبي والعقائدي، ولحماية
ارواح الناس من عنف الارهابيين وتوحشهم، ومن مؤامرات
اصحاب المصالح والطامعين، بكل درجاتهم.

(Visited 1 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *